29-03-2024 04:14 AM بتوقيت القدس المحتلة

ارتجالات ميركل العاطفية بشأن اللاجئين: زيت ضروري للمحرك الألماني ـ الفرنسي!

ارتجالات ميركل العاطفية بشأن اللاجئين: زيت ضروري للمحرك الألماني ـ الفرنسي!

حظ اللاجئين أنّهم حضروا وسط حسابات تتشعّب في كل اتجاه. زعيما فرنسا وألمانيا وقفا معاً، يخاطبان الاتحاد الأوروبي في لحظة استثنائية من تاريخه، من قلب ما يراد له أن يكون قلب مشروع التكتّل الموحد.


وسيم ابراهيم

حظ اللاجئين أنّهم حضروا وسط حسابات تتشعّب في كل اتجاه. زعيما فرنسا وألمانيا وقفا معاً، يخاطبان الاتحاد الأوروبي في لحظة استثنائية من تاريخه، من قلب ما يراد له أن يكون قلب مشروع التكتّل الموحد. داخل أروقة البرلمان الأوروبي، على أبوابه، فوق منابره، كانت الآلة البشرية في القمة. ليست لحظة حفاوة إنسانيّة، بقدر ما هي لحظة الاتكال على ما حفظ النوع الإنساني من الانقراض، وجعله يتسيّد العالم. لحظة السياسة حينما تصير حساسيتها خارج التصوّر والرصد.

داخل الممرات، كان رجال الأمن يجولون بنظراتهم المرتابة، مع سماعات الأذن والستر الرسميّة المنتفخة على الخواصر. كل آلات الفحص، على تطوّرها وتعقيدها، يبدو أنَّها لا تغني عنهم. يمرّ سياسي كهل على باب الدخول، يشير إليه الحارس أن يُخرج الكومبيوتر المحمول من حقيبة بدت مخصصة له. يضحك وهو يخالف التوقعات، ليقول إنَّ الحقيبة فارغة إلَّا من الأوراق. ينظر إلى الحارس ملقياً عليه حكمته وهو يشير بإصبعه إلى رأسه: «الكومبيوتر هنا!».

هذا الرجل ليس موضة قديمة. أبرز الصحف الألمانية اضطرّت أخيراً للتحلّي بحكمته نفسها، وهي تبحث عن جواب شافٍ على اختيار المستشارة الألمانية فجأة، التحول إلى «ماما ميركل» اللاجئين. كل المصادر داخل المستشارية، وفي محيط أنجيلا ميركل، لم تنفع لتقديم الوصفة المتكاملة التي اعتمدها مطبخها السياسي.

التساؤلات تحيط بحديثها عن أنَّ «لا قيود على الأعداد» التي يمكن أن تستوعبها ألمانيا من اللاجئين. جملة اعتُبرت، من قبل المناوئين، ضوءًا أخضر لاستمرار تدفّق سيل اللاجئين وتزايده. فرض الرقابة على الحدود الألمانية، الحديث عن خلافات داخل حزب المستشارة، معارضة بعض الأقاليم، كلها لم تغيّر جوهر الموقف العلني لميركل.

خلال مقابلة إذاعية، بثّت الأحد الماضي، قالت رداً على من يتوقّع إعلانها التراجع :»أنا لن أدير ظهري عن ذلك الآن أو أبدأ بالشكوى، هذا ليس أسلوبي»، قبل أن تضيف أنَّ بلدها يقف الآن «أمام تحدّيات جديدة، لم نواجه مثلها أبداً في حجمها ونطاقها».

ماذا يحدث إذاً مع ميركل؟ لم يجد المقربون منها سوى الإشارة بيدهم، كما فعل السياسي الأوروبي أمام حرّاس الباب، لكن إلى القلب هذه المرة: إنّه موقف محض إنساني، تكاثف وهطل داخلها بشكل مفاجئ، مستمداً مادته من حياتها في كنف والدها، القس المسيحي المنادي بالرحمة بالإنسان.

هل هذا ممكن؟ قرار بهذه التأثيرات، حسّاس من كل ناحية، هو نتيجة تداع إنساني؟ كلام لن يقنع، لا المراقبين، بل من هم في مقاصل تلك الآلة الضخمة لصنع القرار الألماني، في دولة مؤسسات من طراز تتغنى دائماً برفعته. هكذا يصير حتى هذا المخرج الإنساني، غلافاً ضرورياً لقرار مدروس، طالما أنَّ آلات صنع القرار المتقدمة، ليست مبرمجة أصلاً على الارتجال.. الانساني!

تلك الآلات ليست مبرمجة على الارتجال، لكنَّها قد تلجأ إلى التحايل، تماماً كما حصل مع «فضيحة الديزل» لشركة «فولكسفاغن»، حينما غشّت لإظهار أنَّ محركات سياراتها في السوق الأميركية، تصدر القليل من الانبعاثات الضارة.

لهذا ارتباط بحضور ميركل وهولاند. إنَّهما زعيما ما يسمّى المحرّك الألماني - الفرنسي، الذي يقود مشروع الاتحاد الأوروبي، لجهة نقله إلى تكتّل أكثر اتحاداً مع مؤسسات مشتركة تحكمه. إنَّها المرة الأولى التي يحضر فيها زعيما «المحرّك»، منذ العام 1989. حينئذٍ، وقف المستشار الألماني هيلمت كول والرئيس الفرنسي فرانسوا ميتران على المنصة، ليخطبا في منافع «أوروبا أكثر». هذه السنوات غيّرت في قوّة جرّ المحرّك، وإن لم يكن في موقعه. فرنسا ليست بتلك القوّة الاقتصادية التي كانت عليها، مع تزايد مشاكلها لأسباب عديدة منها تداعيات الأزمة المالية. إنَّها الآن مع محرّك بأحصنة أقلّ. أحصنة المحرّك الألماني تعمل بقوة جرّ هائلة، ومعها تشهد برلين ذروة ازدهار اقتصادي.

حضور ميركل وهولاند خيّمت عليه «أزمة اللاجئين»، كما تسمّيها أوروبا. سيلهم يواصل التدفّق، والآراء منقسمة حول كيفية الصدّ وعياره، وبأيّ سياسة يجب أن يتمّ. تأخُّر المحرّك الفرنسي لا يعني أنه لا يقود، مثلما أنَّ قوّة المحرّك الألماني لا تعني أنه لا يتحايل، سياسياً، خصوصاً حول اختراع أنَّ إعلان «الأحضان المفتوحة» كان سهواً إنسانياً. حدث نوع من تبادل الأدوار. تركت ميركل لهولاند أن يكون لسان ما تريده، أن يتحدّث بالتفصيل عن خلق مؤسسات أوروبيّة مشتركة جديدة، لتفادي الإشارة المتكرّرة والمنزعجة من موقعها القيادي.

عملياً، تمّ استثمار أزمة اللاجئين على أفضل نحو، وفق ما يخطّط له أنصار تقوية الاتحاد. كان هذا واضحاً قبل الظهور الثنائي. كل شيء كان موجوداً في خطاب ألمانيا أمام الأمم المتحدة، حينما تلاه وزير خارجيتها فرانك فالتر شتاينماير. الحاجة لنظام جديد، يكون نظاماً أوروبياً مشتركاً للجوء، لأنَّ نظام دبلن «لا يعمل».

هذا النظام يقرّ أنَّ اللاجئين يطلبون اللجوء في أول دولة أوروبيّة يصلونها. الآن تجري عمليّة استبداله، تدريجياً، بعد إطلاق العمل بنظام «الحصص» الالزاميّة، أملاً في تكريسه كآلية دائمة. قبول اليونان وإيطاليا بتكدّس اللاجئين فيهما، في مراكز استقبال كبيرة، سيقابله قبول بتوزيع «العبء» وفق نظام الحصص. هنا تضرّ أيضاً دعوة برلين، التي كرّرها الرئيس الفرنسي أيضاً، بإنشاء «سلطة أوروبية» تضع معايير وإجراءات موحدة للجوء.

الفضل في هذه العناوين المأمولة يعود إلى «أزمة اللاجئين». بدت مثل زيت ضروري لتسهيل عمل المحرّك الألماني - الفرنسي لأوروبا. الرئيس الفرنسي انهمك أيضاً في تلميع الشعار: «نحتاج إلى أوروبا أكثر»، مبتكراً صيغة «السيادة المشتركة» لمحاربة شعارات اليمين الأوروبي المتطرف الذي تتنامى شعبيته.

هذا التيار ينادي بـ «أوروبا أقل»، يدعو إلى إعادة السلطات من المؤسسات الأوروبية إلى العواصم الوطنية، محاججاً بالحرص على «السيادة الوطنية». باريس تواجه تحدياً فعلياً مع هذا التيار، أكّده تنامي شعبية حزب «الجبهة الوطنية» بقيادة مارين لوبين. صحافيون كثر كانوا يتأمّلون بلحظة دراما مشوّقة، حينما تقف لوبين وتواجه هولاند الذي يعاني من تدهور قياسي لشعبيته.

مع زيت «أزمة اللاجئين» أمكن لهولاند حصد التصفيق، وهو يتحدّث عن أهمية تفادي «خطأ مأساوي» سيؤدي له التراجع عن تقوية المشروع الأوروبي. المثال كان أزمة اليورو، وكيف أدَّت مواجهتها عبر «أوروبا أقوى» إلى تمتين مؤسسات التكتل وزيادة مناعته.

ميركل نسجت على ذات المنوال. تقريباً، لم تتحدّث سوى عن اللاجئين، لتكون القضية الغلاف الذي وضعت داخله طروحات «أوروبا أكثر» بدورها. ربما صدفة. مثلما قد يكون ارتداؤها لتلك السترة الزرقاء، من نفس درجة لون العلم الأوروبي. قالت إنَّ كيفية التعاطي مع اللاجئين، النهج والسياسة، تمثّل «الاختبار التاريخي» الذي ستخرج منه أوروبا أقوى إذا ابتعدت عن «خيانة النفس». هطولات من العواطف. طبعاً «خيانة النفس» يمكن عدم ارتكابها، بحسب ميركل، إذا التزم الأوروبيون «القيم المشتركة»، وواصلوا في نفس الوجهة كما قال: «نريد أوروبا أكثر، هذا حاسم الآن».

جزء من هذه اللعبة هو الاتفاق مع تركيا، لتقوم بسدّ بوابتها المفتوحة بما مكّن من تدفّق سيل اللجوء. المساومة صارت مفتوحة علناً، بعدما نشرت بروكسل مسودة مبادئ الخطة المشتركة. المسؤولون الأوروبيون يرجّحون أنَّ أنقرة ستقبل الصفقة، إذا حصلت على اتفاقية التنقل الحرّ بلا تأشيرة لمواطنيها داخل الاتحاد الاوروبي.

المطلوب من تركيا، أن تفتح مراكز لجوء جديدة، تستوعب نحو مليوني لاجئ. المطلوب أيضاً، تنفيذ خطّة جرت محاولة التعتيم على أهميتها. فأنقرة وقّعت مع بروكسل اتفاقية نهاية العام 2013 تسمى «إعادة القبول». فحواها أنَّ كل اللاجئين الذين يعبرون إلى دول الاتحاد عبر تركيا، بشكل «غير شرعي»، تلتزم حكومة أنقرة بإعادة استقبالهم. في المقابل، حصلت حينها أنقرة على وعود بتسريع اتفاقية الإعفاء من التأشيرة لمواطنيها. حينها تمّ الاتفاق على ثلاث سنوات كفترة اختبار لحسن التطبيق، قبل إتمام ما وقّعه أحمد داود أوغلو حينما كان وزيراً للخارجية. قال وقتها، بعدما وقع الاتفاق، «إنّه يوم تاريخي للشعب التركي وللاندماج مع الاتحاد الأوروبي». ذلك الاندماج المتعثّر متواصل، ويمكن تخيّل أهميّة مخاطبة الشعب التركي الآن، قبل شهر من الانتخابات العامة، مع جرعة السفر إلى أوروبا بلا فيزا.

كل هذا يحدث، فيما التخمينات لا تزال مستمرة حول سهو ميركل الإنساني. ترصد استطلاعات الرأي تراجع بعض من شعبيتها، مع تزايد قلق الألمان من تضاعف تدفقات اللجوء.

تجرى تلك الاستطلاعات، فيما تجري المبالغة حول الموازنة الكبيرة اللازمة لإدارة ملف اللاجئين وإدماجهم في ألمانيا. إنَّها بضعة مليارات يورو. ما ستدفعه «فولكسفاغن»، مخالفة لأميركا عن غشّها، يبلغ نحو 18 مليار يورو. هذا يكفي لإعالة 2.5 مليون لاجئ سوري لسنة كاملة داخل ألمانيا. نظراً إلى أنَّ كل لاجئ يخصّص له حوالي 700 يورو شهرياً. هذا يعني أيضاً أنَّ مخالفة الشركة الألمانية تكفي لإعالة خمسة ملايين لاجئ في أوروبا الأفقر، وأعداد أكبر في دول جوار سوريا. ربّما يمكن أن تكون إعلانات ميركل ارتجالاً عاطفياً، ليس في المستوى السياسي، بل الفلسفي. حينما يكون متفقاً على أنَّ صفات «الذكاء والمرونة والرؤية»، التي قالت ميركل إنّها ستمكّن أوروبا من ابتكار الحلول لوحدتها، هي صفات ثلاث لمصطلح «الارتجال العاطفي».

assafir.com

موقع المنار غير مسؤول عن النص وهو يعبّر عن وجهة نظر كاتبه