خطبة الجمعة لسماحة الشيخ علي دعموش – موقع قناة المنار – لبنان
المجموعة اللبنانية للإعلام
قناة المنار

خطبة الجمعة لسماحة الشيخ علي دعموش

الشيخ دعموش

 

 

نص الخطبة

يقول الله تعالى: ﴿وَمَن يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَل لَّهُ مَخْرَجًا ‎وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ ۚ وَمَن يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ ۚ إِنَّ اللَّهَ بَالِغُ أَمْرِهِ ۚ قَدْ جَعَلَ اللَّهُ لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْرًا﴾. الطلاق: 2-3

التقوى هي الامتثال لما امر الله به في كل شيء، والالتزام بالواجبات والعبادات والمسؤوليات، وبالحلال والحرام في كل شيء.

والتقوى بهذا المعنى هي من التكاليف المقدور عليها حيث (لا يكلف الله نفسا الا وسعها) وبالتالي كل واحد منا، كبيرا او صغيرا عالما او جاهلا وجيها او عاديا رجلا او امراة غنيا او فقيرا، يستطيع ان يربي ملكة التقوى في نفسه، بحيث تكون له حالة داخلية في نفسه يستطيع من خلالها ان يلتزم بما أمر الله به، وبما أحله الله له، ويبتعد عما حرمه عليه، حتى لو كان يرى ان الحرام فيه مصلحته او يحبه ويرغب فيه.

الاية التي تلوتها تحث على التقوى وتتحدّث عن نتائج وآثار التقوى وفوائدها على الإنسان في الدنيا وفي الآخرة، لان التقوى لا تقتصر نتائجها على الآخرة فقط كما قد يظن البعض، بل لها آثار ونتائج في الدنيا وفي الآخرة:

اما نتائجها في الآخرة : فهي أنّها طريق للفوز بالجنة والنعيم الدائم والخالد، وطريق للنجاة من النار والعذاب .

يقول تعالى: ﴿وَمَن يَتَّقِ اللَّهَ يُكَفِّرْ عَنْهُ سَيِّئَاتِهِ وَيُعْظِمْ لَهُ أَجْرًا﴾ الطلاق: 5.

ويقول تعالى: في اية اخرى ﴿إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَنَعِيمٍ ‎ فَاكِهِينَ بِمَا آتَاهُمْ رَبُّهُمْ وَوَقَاهُمْ رَبُّهُمْ عَذَابَ الْجَحِيمِ ‎ كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئًا بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ مُتَّكِئِينَ عَلَىٰ سُرُرٍ مَّصْفُوفَةٍ وَزَوَّجْنَاهُم بِحُورٍ عِينٍ) الطور: 17- 20.

واما آثارها وفوائدها في الدنيا: فهي ما تتحدّث عنه الآية الكريمة، من أنّ التقوى تفتح أمام الإنسان مخارج مناسبة لتجاوز الأزمات والتحديات وتساعده على إيجاد الحلّول للمشكلات والابتلاءات التي يقع فيها في الحياة.

يقول الله تعالى:  (وَمَن يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَل لَّهُ مَخْرَجًا وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ﴾ اي يفتح له طريقا للخروج من المآزق والازمات..

فهذه الاية تبعث الأمل في نفوس المتقين بأنّ الله سيشملهم بلطفه ورعايته، فينجيهم من المآزق، ويرشدهم إلى الصواب، ويفتح أمامهم الآفاق الرحبة، ويحل لهم مشاكل الحياة وصعوباتها، فلا ينبغي ان ييأسوا او يصابوا بالاحباط، او يشعروا بالعجز ويستسلموا للمشكلات.

وفي الحديث عن النبي(ص) أنّه قال: “من أكثر الإستغفار جعله الله له من كلّ هم فرجاً ومن كلّ ضيق مخرجاً.

ويقول بعض المفسّرين: إنّ الآية نزلت بحقّ (عوف بن مالك) وهو أحد أصحاب الرّسول (ص) كان قد أُخذ إبنه أسيرا فجاء الى النبي(ص) وشكا من هذا الحادث ومن فقره والضيق الذي يعيش فيه، فنصحه رسول الله وقال له: “اتّق الله واصبر، وأكثر من قول “لا حول ولا قوّة إلاّ بالله” ففعل ذلك، وفجأة بينما هو جالس في بيته دخل عليه ولده، وتبيّن أنّه قد استغفل العدو والسجانين وفرّ من قبضتهم وجاء بجمل معه منهم، لذلك نزلت هذه الآية التي تتحدث عن خروج هذا الرجل المتّقي من أزمته من حيث لا يتوقع.

وطبعا لا يعني هذا إطلاقاً أنّ الآية تحثّ على ترك السعي والعمل وبذل الجهد والجلوس في البيت ، كما لا تعني ان يكتفي الانسان بالدعاء ليحل الله مشكلته وأن يردّد قول “لا حول ولا قوّة إلاّ بالله” لينزل عليه الرزق من حيث لا يحتسب.

ما تريد الآية الكريمة أن تؤكد عليه هو أنّ العمل والسعي لابدّ أن يكون معه وإلى جانبه تقوى، ليفتح الله الابواب والمخارج والحلول امام الانسان، وإذا أغلقت كل الأبواب بوجه الانسان عندها فان الله سبحانه يتدخّل لفتحها .

لهذا نجد في الحديث أنّ أحد أصحاب الإمام الصادق (ع) (وهوعمر بن مسلم) إنقطع فترة عن الإمام، فسأل الإمام (ع) عنه، فقالوا له: انه توجه نحو العبادة وترك التجارة العمل، فقال: ويحه! أما علم أنّ تارك الطلب لا يستجاب له، إنّ قوماً من أصحاب رسول الله (ص) لمّا نزلت: (ومن يتّق الله يجعل له مخرجاً ويرزقه من حيث لا يحتسب) أغلقوا الأبواب وأقبلوا على العبادة وقالوا: قد كفينا، فبلغ ذلك النبي (ص) فأرسل إليهم قال: “ما حملكم على ما صنعتم به” فقالوا: يارسول الله تكفّل الله لنا بأرزاقنا فأقبلنا على العبادة قال (ص): “إنّه من فعل ذلك لم يستجب له، عليكم بالطلب”.

اذن الله عزوجل يفتح امام الانسان المتقي الابواب والافاق والمخارج من الازمات والمشاكل التي يعاني منها، ولكن كيف يفعل ذلك؟

الله تعالى قد يجعل للانسان مخرجا من ازماته من خلال تدخلًه الغيبي، بحيث ينقذ الإنسان المتقي من مشاكل الحياة وأزماتها بوسائله الغيبية التي لا نعرفها، فالله قادرعلى ان يغير سوء حالنا الى احسن حال، لانه قادر على كل شيء والأموركلها بيده وتحت سلطانه وطوع امره ﴿إِنَّ اللَّهَ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) البقرة: 20. وفي اية اخرى: ﴿إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَن يَقُولَ لَهُ كُن فَيَكُونُ﴾ يس: 82.

ويقول تعالى:  ﴿وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعْجِزَهُ مِن شَيْءٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلَا فِي الْأَرْضِ ۚ إِنَّهُ كَانَ عَلِيمًا قَدِيرًا﴾ فاطر: 44.

وقد يجعل الله مخرجا من خلال تسديده وتوفيقه للانسان المتقي، بحيث يلهمه من خلال التقوى الى خطوات ثابتة تؤهله لتجاوز الازمات والعقبات والمحن والمصائب بطريقة صحيحة، لأنّ التقوى تبني الشخصية العاقلة والواثقة والمطمئنة والمنضبطة والواقعية التي تتعامل مع المشكلات بواقعية، التقوى تبني الشخصية التي تعيش الامل والتفاءل لانها تثق بان الله الرؤوف الرحيم لا يترك الانسان المتقي في مهب الازمات، تبني الشخصية التي تصبر وتتحمل وتسعى وتعمل للخروج من المشكلات وللتعامل الصحيح مع البلاءات والمصائب.

قد يواجه الإنسان بلاءا صعبا لا يمكن تجاوزه او يصعب معالجته ، مثل العاهات والإعاقات الجسدية التي يبتلي بها بعض الناس، فان بعض العاهات لايمكن معالجتها، كما ان بعض المشكلات والازمات تكون صعبة وقاسية، فهل يتعقّد الانسان ويتأزم نفسيا ويحبط ويصاب باليأس؟ ام انه يواجه مثل هذه الابتلاءات والمشكلات بالصبر والثبات، ويتعامل معها بشكل واقعي ويسعى لمعالجتها ؟؟

الإنسان المتقي امام البلاءات والازمات يصبر ويتحلى بالثبات والطمأنينة وبالتفكير الواقعي، فلا يستسلم للمشكلات التي لا يمتلك حلّها بالفعل، ولا يجعلها تسيطرعلى نفسه ومشاعره، بل يلتفت إلى انه وان كان قد فقد بعض اعضاء جسده مثلا او فقد بعض ماله او ممتلكاته لكن الله منحه إمكانات وقدرات وطاقات اخرى، الانسان المتقي لا يسقط امام البلاء بل يفوض أمره إلى الله وينطلق في هذه الحياة، وتكون لديه ثقة بان الله سيعوّض عليه ما فقده، ويعيش الامل بان الله سيجعله في احسن حال ان هو سعى وعمل وبذل الجهود المطلوبة لمعالجة المشكلات، لان الله تعالى يقول: ﴿فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا) الشرح: 5-6. ويقول تعالى: ﴿سَيَجْعَلُ اللَّـهُ بَعْدَ عُسْرٍ يُسْرًا﴾ الطلاق: 7.

الابتلاءات والمحن والمصاعب والتحديات تثقل شخصية الانسان وتصنع الاقوياء وهي طريق للتألق والتقدم والعظمة والرفعة.

الكثير من الانبياء والرسل والعظماء والقادة الكبار مروا بتحديات وضغوط وصعاب ومشاق وواجهوا الكثير من الاساءات والالام والمحن، وكانت المحن والآلام طريقهم إلى التألّق والتقدّم وتحقيق الانجازات والانتصارت.

نبي الله إبراهيم الخليل (ع) لم يصل إلى مقام الإمامة والقيادة إلّا عن طريق التحدّيات والابتلاءات.، وقد حثنا الله عن ذلك فقال تعالى: ﴿وَإِذِ ابْتَلَىٰ إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ فَأَتَمَّهُنَّ ۖ قَالَ إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَامًا﴾. [البقرة: 124].

نبينا الاعظم محمد(ص) اوذي بما لم يؤذى به نبي على وجه الارض، وفرضت عليه وعلى من معه حروب وعقوبات وحصار اجتماعي واقتصادي وسياسي، ولكنه تحد كل ذلك وتجاوز كل الصعاب والمتاعب والاساءات، وحقق اعظم انجاز في منطقة شديدة التعقيد بانتصاره المدوى على كل اعداءه.

الكثير من الشخصيات والزعامات، تعرضوا خلال حياتهم للعديد من المشكلات والصعاب والازمات، فكانت طريقهم إلى التقدم والتألق.

عندما نملك الارادة القوية ونعرف كيف نتعامل مع الازمات سنتمكن من تحمل الازمات وتجاوزها ولن نعجز عن ذلك، الحياة لا تفرض علينا شيئا نعجز عن تحمله طالما لدينا ارادة قوية ونظرة صحيحة للامور ونعرف كيف نتعامل معها، لا احد يتسرّع ويقول بأنه لا يستطيع تحمّل المشكلة، إنت تستطيع أن تتحمّل، ولو استعدت شريط حياتك لوجدت أنّ مشكلات صعبة كثيرة مرت في حياتك وتجاوزتها، وأصبحت من ذكريات الماضي .

ولذلك عندما يواجه الانسان الازمات عليه ألّا يصاب بالإحباط واليأس، وأن يتحلّى بالصبر والثبات والأمل والتفاؤل، والرضا بما قسمه الله تعالى له.

وعندما يفعل الانسان ذلك فان الله سيفتح له الابواب ويوجد له المخارج من الازمات. ﴿وَمَن يَتَّقِ اللَّـهَ يَجْعَل لَّهُ مَخْرَجًا﴾ يفتح له طريقًا لتجاوز محنته، لكن عليه أن يسعى لاكتشاف ذلك الطريق.﴿وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ﴾ يعني: تأتيه فرص لم تكن متوقعة.

لقد أُنجز بالامس التوقيع على اتفاق الترسيم وهو انجاز مهم وكبير يفتح باب الأمل أمام اللبنانيين للخروج من أزماتهم الاقتصادية والمعيشية.

هذا الاتفاق هو نتيجة عملية تفاوض صعبة خاضها لبنان مع الامريكي وليس مع الاسرائيلي، فلبنان كان يفاوض الامريكي في الحقيقة وليس الاسرائيلي في ملف الترسيم، لان الذي حاصر لبنان ولم يسمح للشركات بالتنقيب عن النفط والغاز واستخراجه طيلة السنوات الماضية.. وكان يماطل ويسوّف ويعمل على تضييع الوقت هو الامريكي بالدرجة الاولى، وكان الهدف هوالضغط على اللبنانيين لتأليبهم على المقاومة وللقول للبنانيين بان المقاومة هي المشكلة وهي سبب الازمات في لبنان، ولكنهم فشلوا، فشلوا لان الناس صمدوا وتحملوا وكانوا على درجة عالية من الوعي والمعرفة بمخططات العدو، وفشلوا لان المقاومة استطاعت ان تفرض معادلتها وان تجبر الامريكي للاستعجال في انجاز الاتفاق خوفا من الحرب التي كان يخشاها الاسرائيلي ايضا لعدم جهوزيته لها، خصوصا ان اولوية اميركا حاليا هي الحرب الاوكرانية ولا تريد الانشغال بأية حروب اخرى في المنطقة.

وعلى اي حال، اليوم لبنان بعد التفاهم الذي وقع بالامس أمام فرصة تاريخية لاستعادة وضعيته الطبيعية، لان الثروة النفطية والغازية التي بات يملكها لبنان كفيلة باخراجه من ازماته المالية والاقتصادية، اذا احسن المسؤولون الاستفادة منها وواكبوها وحموها ولم يعرضوها للنهب والسرقة والفساد .

على المسؤولين ان يقدروا حجم هذا الانجاز الذي ما كان ليتحقق لولا معادلة المقاومة ووحدة وثبات الموقف الوطني، وان لا يهدروا الوقت ولا يضيعوا الفرص، وان يخرجوا من دائرة المصالح الضيقة والخاصة، ويهتموا برفع الجوع والمعاناة والذل الذي يعاني منه اللبنانيون.

اليوم الاستفادة الصحيحة من هذا الانجاز ومن الثروة الكبيرة التي بات يملكها لبنان تتوقف على وجود دولة مستقرة بكامل مؤسساتها، ولذلك على المسؤولين القيام بواجبهم الوطني في انتخاب رئيس للجمهورية وتأليف حكومة كاملة الصلاحيات للشروع في ورشة انقاذية تُعيد وضع لبنان على مسار الدول الطبيعية.

ولانه ليس بامكان اي طرف تأمين النصاب منفردا لانجاز استحقاق انتخاب رئيس للجمهورية، فان الحاجة الاساسية هي للحوار والتوافق، بعيدا عن التحدي والاستفزاز والمسرحيات التي لا تنفع الا في حرق الاسماء .