أطلقت دول تحالف الساحل مناورات عسكرية واسعة النطاق في بلدة “تيلَ” الواقعة شمال النيجر، وذلك في إطار خطوة استراتيجية تهدف إلى تعزيز التنسيق الأمني والعسكري بين الدول الأعضاء، ومواجهة التهديدات الإرهابية المتصاعدة التي تقوّض استقرار منطقة الساحل، إضافة إلى تطوير قدرات جيوشها على إدارة العمليات المشتركة والارتقاء بجهوزيتها الميدانية.
وبحسب ما أوردته الإذاعة الوطنية في النيجر، فإن المناورات التي انطلقت رسميًا ستستمر لمدة أسبوعين، بمشاركة قوات من النيجر ومالي وبوركينا فاسو وتشاد والكاميرون، فيما أشارت مصادر عسكرية مطّلعة إلى أنّ دولة توغو قدّمت دعمًا لوجستيًا مهمًا للتمرينات الجارية، وإن لم تشارك بشكل مباشر في العمليات الميدانية.
وفي هذا السياق، صرّح نائب رئيس أركان الجيش النيجري، الجنرال عبد القادر أميرو، أنّ هذه المناورات تعبّر عن التزام واضح من قبل الدول المشاركة بتعزيز قدراتها الدفاعية، وتفعيل آليات التعاون لمجابهة التحديات الأمنية، وعلى رأسها الإرهاب، والتهديدات العابرة للحدود. كما أكد أن التحالف العسكري يسعى إلى بلورة ردٍّ جماعي وفعّال على تصاعد الهجمات الإرهابية في الإقليم.
رسائل ميدانية وسياسية في مواجهة الإرهاب والانقسامات الداخلية
وتأتي هذه الخطوة في توقيت دقيق للغاية، إذ تشهد منطقة الساحل تصاعدًا خطيرًا في الأنشطة الإرهابية، لا سيّما في بوركينا فاسو، حيث تُسيطر جماعات مسلحة على نحو ثلث أراضي البلاد، في ظل غياب فعلي لدور الدولة ومؤسساتها في العديد من المناطق النائية. ونتيجة لذلك، ارتفعت وتيرة النزوح الداخلي، بعدما تحوّلت قرى بأكملها إلى مناطق خالية من السكان، بينما أضحت بعض المدن ملاذًا لموجات من الفارّين من العنف، وسط ظروف إنسانية متدهورة وغياب شبه تام للخدمات الأساسية.
ويكتسب اختيار بلدة “تيلَ” كموقع للمناورات أهمية استراتيجية بالغة، إذ تقع قرب منطقة “ليبتاكو” الحدودية، التي تُشكّل مثلثًا جغرافيًا حساسًا يربط بين النيجر ومالي وبوركينا فاسو، وتُعد من أبرز النقاط الساخنة التي تنشط فيها الجماعات الإرهابية. وتشهد هذه المنطقة بشكل متكرر هجمات موسمية، كان آخرها قبل أيام فقط، حين تمكنت جماعات مرتبطة بتنظيم “داعش – ولاية الساحل” من السيطرة على أجزاء من البلدة.
وبناءً عليه، فإنّ المناورات الجارية تهدف إلى ما يمكن اعتباره محاولة استعادة زمام المبادرة الميدانية، وترهيب الجماعات الإرهابية، وقطع الطريق على تمددها، في وقت تُظهر فيه النيجر تفوقًا نسبيًا في السيطرة الميدانية مقارنة بجارتيها مالي وبوركينا فاسو، من حيث انتشار قواتها العسكرية ومستوى جاهزيتها العملياتية.
إلى جانب ذلك، تحمل هذه المناورات أبعادًا تتجاوز الإطار التدريبي، إذ تُشكّل رسالة سياسية وعسكرية مزدوجة إلى الفاعلين الإقليميين والدوليين، مفادها أن دول التحالف تعتزم مواجهة التهديدات الأمنية بالاعتماد على قدراتها الذاتية، بعيدًا عن المظلات الخارجية التقليدية التي أثبتت محدودية فعاليتها في السنوات الماضية.
وتتجلّى في هذا السياق مكانة الجيشين النيجري والتشادي، اللذين يُعدّان من بين الأكثر تمرسًا في مكافحة الإرهاب في الإقليم، نتيجة تراكم الخبرة وتكرار الانخراط في المواجهات الميدانية، إلى جانب جيشي مالي وبوركينا فاسو اللذين راكما بدورهما خبرات ميدانية ملموسة رغم هشاشة البنى الأمنية في الداخل.
غير أنّ نجاح هذه الجيوش في تحقيق أهدافها لا يمكن فصله عن ضرورة توفير بيئة سياسية مستقرة وداعمة. إذ إنّ الانقلابات المتكررة والانقسامات السياسية تُضعف مؤسسات الدولة، وتُربك تركيز الجيوش على مهامها الأساسية، مما يفسح المجال أمام الجماعات الإرهابية للتوسع مستفيدة من الفراغ المؤسسي والانهيار الإداري.
وفي الوقت الذي تملك فيه هذه الدول طواقم أمنية محترفة، فإنّ أداءها في الميدان لا يزال محكومًا بإرادة سياسية قد تعيق أو تعزّز فعالية القوات العسكرية. فالإشكالية لا تتعلق بضعف الإمكانات البشرية أو نقص في الموارد، بقدر ما ترتبط بغياب الأرضية السياسية والدستورية التي تُمكّن المؤسسة العسكرية من التحرك بحرية وبفعالية، بعيدًا عن التجاذبات والحسابات الداخلية الضيّقة.
من جهة أخرى، فإن الجماعات الإرهابية الناشطة في الساحل تتميز بتنوع خلفياتها وتعدد دوافعها، إذ يتداخل فيها العنصر الإيديولوجي مع اعتبارات النفوذ والجغرافيا والاقتصاد، فضلًا عن التهميش والفقر المزمن الذي يطبع حياة السكان في الأطراف. وهذا ما يجعل مهمة مكافحتها معقدة للغاية، ويُضاعف من التحديات التي تواجهها جيوش المنطقة.
وفي هذا الإطار، لا يُمكن إغفال الاتهامات المتكررة التي تُوجّه لبعض الأنظمة السياسية باستخدام “شماعة الإرهاب” كذريعة لتمديد بقائها في السلطة، وتعطيل مسارات الانتقال المدني والديمقراطي. وهي ممارسات تُسهم، بشكل مباشر أو غير مباشر، في تقوية نفوذ الجماعات المسلحة، من خلال الإبقاء على بيئة الانقسام واللايقين السياسي.
أمّا على مستوى الرسائل الرمزية، فقد اختارت الجيوش المنظمة للمناورات شعارًا ناطقًا بلغة الطوارق هو “الترهان أكَل”، ويعني “حب الوطن”. ويعكس هذا الاختيار بعدًا هوياتيًا وتاريخيًا لافتًا، إذ أن المكوّن الطارقي يُشكّل عنصرًا مشتركًا في التركيبة السكانية للدول المشاركة، وله سجل طويل في مقاومة الاستعمار الفرنسي، ما يُضفي على الشعار بُعدًا وحدويًا ومقاومًا. وبالتالي، فإن استحضار هذه الخلفية يُعد بمثابة دعوة لتجديد روح الانتماء الوطني والتعبئة الجماعية في مواجهة الأخطار المحدقة بالإقليم.
ختامًا، فإن مناورات “تيلَ” تمثل أكثر من مجرد تمرين عسكري مشترك، إذ تُعبّر عن تحوّل في المقاربة الأمنية لدول الساحل، وتُعيد رسم معادلة القوة في منطقة مضطربة باتت في قلب التنافس الإقليمي والدولي على النفوذ والموارد.
المصدر: موقع المنار