الأربعاء   
   03 09 2025   
   10 ربيع الأول 1447   
   بيروت 00:42

توم باراك والنزعة الاستعمارية: عندما يُسقِط الغرب على الآخرين شياطينه

في 26 أغسطس/آب، أحدث توم باراك، المبعوث الخاص لدونالد ترامب إلى سوريا ولبنان، صدمةً في بيروت. فبوصفه الصحفيين اللبنانيين الذين جاؤوا لمقابلته بـ”الحيوانات” وحثهم على “الصمت” و”التصرف بتحضر”، لم يرتكب باراك خطأً لفظيًا فحسب، بل أعاد أيضًا إنتاج نمطٍ عريق: نمط الازدراء الاستعماري، حيث يدعي الغرب الحق في تحديد ما هو متحضر وما هو غير متحضر، وفرض تفوقه المزعوم على شعوب الجنوب العالمي.

جاءت ردود الفعل فورية. ندد النشطاء والمثقفون والصحافيون بـ”رد فعل استعماري بحت”، مذكرين إياهم بأن مثل هذه التصريحات ليست عرضية، بل هي نتاج نظام وهمي متجذر في الدبلوماسية الغربية. وكما يشير إدوارد سعيد في كتابه “الاستشراق” (1978)، فقد بنى الغرب لقرون سرديةً تصور الشرق على أنه غير عقلاني وعنيف وفوضوي، الأمر الذي يبرر تأطيره من قبل الغرب “العقلاني” و”المستنير”.

التزاوج الأيديولوجي الغربي

يمكننا أن نسمي هذا التكرار للازدراء تزاوجًا أيديولوجيًا: انغلاق فكري يُعيد فيه الغرب، العاجز عن نزع مركزيته، تدوير نفس الكليشيهات العنصرية والأبوية بلا نهاية. سبق لفرانز فانون، في كتابه “معذبو الأرض” (1961)، أن حلل هذه الظاهرة قائلاً: “الاستعمار ليس آلة، ولا جسدًا مُنِح عقلًا. إنه العنف في حالته الطبيعية”. لذا، فإن “الطبيعة الوحشية” ليست طبيعة الشعوب المُستعمَرة، بل هي طبيعة الإمبراطوريات التي بنت ازدهارها على الهيمنة على الآخرين واستغلالهم وإذلالهم.

تُجسّد الحروب الأمريكية في الشرق الأوسط، من العراق إلى أفغانستان، بما في ذلك الدعم الثابت للاحتلال الإسرائيلي لفلسطين، هذه الآلية. إن الولايات المتحدة وحلفاؤها هم من زرعوا الفوضى، وتسببوا في مقتل وتهجير الملايين، ثم يتهمون الشعوب الضحية بـ”العجز عن الحضارة”.

عقدة تفوق مُؤسسية

يُجسّد خطاب توم باراك ثابتة من الثوابت: عقدة التفوق الغربي. هيكليًا، تتغلغل هذه العقدة في الأوساط الدبلوماسية والإعلامية والأكاديمية. عندما يكون مؤتمر صحفي أمريكي عاصفًا، يُفسّر على أنه دليل على ديمقراطية نابضة بالحياة؛ وعندما يُعقد في بيروت، يُصبح علامة على “فوضى عارمة”.

يعكس هذا الكيل بمكيالين رؤية استشراقية كلاسيكية، ندد بها عالم الأنثروبولوجيا إدوارد سعيد: يحتاج الغرب إلى تصوير الشرق على أنه الآخر الأدنى للحفاظ على هيمنته. وراء هذا الخطاب تكمن رغبة في تبرير التدخل والوصاية، وحتى الحرب.

قلب الاتهامات: عندما يلوم الظالم الضحية

هذا الخطاب ليس متعجرفًا فحسب، بل هو أيضًا منحرف، إذ يُقلب المسؤوليات. فبينما يحمل الدمار الهائل في العراق وليبيا وسوريا واليمن إلى حد كبير بصمات التدخلات الغربية، فإن الشعوب العربية هي التي تجد نفسها متهمة بتأجيج الفوضى. وكما يُشير الأستاذ اللبناني الأمريكي أسعد أبو خليل، “يسعى هؤلاء الدبلوماسيون جاهدين لإثبات ولائهم بالتطرف في عنصريتهم وصهيونيتهم”.

من جانبه، يرد الكاتب الفلسطيني مصعب أبو توهة الاتهام على مُرسِله: ليست الشعوب العربية هي التي تتصرف “بوحشية”، بل الأنظمة التي تقصف وتُجوّع وتستعمر. وهكذا، يكتسب مصطلح “الوحشية” الذي استخدمه باراك صدىً ساخرًا مأساويًا.

تفكيك التزاوج الداخلي الاستعماري

تُسلّط هذه الحلقة الضوء على حاجة مُلِحّة: تفكيك السرديات الغربية ورفض استيعابها. فالخطر لا يقتصر على ترديد هذه السرديات، بل يتبناها أحيانًا نخب محلية مفتونة بالغرب. لا بدّ من فضح التزاوج الداخلي الأيديولوجي للغرب، هذا العجز عن التفكير في الآخر إلا من خلال الصور النمطية الموروثة من القرن التاسع عشر. للمثقفين والصحفيين العرب والأفارقة والشرق أوسطيين دورٌ حيويٌّ في هذا الصدد: ليس فقط في الرد على الإهانات، بل في تفكيك منظومة الفكر التي تُنتجها، بتذكيرنا بأن الكرامة والسيادة أمران لا غنى عنهما.

عكس المرآة

في نهاية المطاف، ما قضية باراك إلا عرضٌ لشرٍّ أعمق. فالغرب، المقتنع بتفوقه، يُسقط على الشعوب الأخرى عيوبا هي في الواقع عيوبه: العنف والفوضى والدمار. وكما في المرآة المعكوسة، فإن ما يتهم به العرب والأفارقة ليس سوى انعكاس لتاريخه الاستعماري.

حان الوقت لقلب هذه المرآة رأسًا على عقب والتأكيد، كما قال فانون: “على كل جيل، في غموض نسبي، أن يكتشف رسالته، فاما يُنجزها أو يخونها”. مهمتنا واضحة: كسر حلقة الخطاب الاستعماري المتأصلة، واستعادة صوت شعوب الجنوب العالمي وكرامتهم التي لا تخص سواهم.

المصدر: بريد الموقع