الجمعة   
   12 09 2025   
   19 ربيع الأول 1447   
   بيروت 14:41

الشيخ الخطيب في رسالة الجمعة من مشهد: لطاولة حوار حول استراتيجية للأمن الوطني تحمي لبنان

وجّه نائب رئيس “المجلس الإسلامي الشيعي الأعلى” في لبنان، الشيخ علي الخطيب، رسالة الجمعة من مدينة مشهد المقدسة في الجمهورية الإسلامية الإيرانية، والتي يزورها بعد مشاركته في المؤتمر التاسع والثلاثين للوحدة الإسلامية الذي اختتم أعماله في طهران مساء الأربعاء الماضي.

وبالمناسبة، قال الشيخ الخطيب “يكفي أن هذا العدو يصرّح علنًا وبشكل سافر عن هدفه في ضم لبنان إلى مشروعه في تحقيق إسرائيل الكبرى”، وسأل “هل بعد هذا من عذر لحاملي لواء إسرائيل في نزع سلاح المقاومة؟ وما هو الوصف الذي يستحقونه بعد ذلك؟ وأين دولة السيادة من حاملي لواء المطلب الإسرائيلي فيما تريد نزع سلاح الدفاع عن السيادة، أم أن وراء الأكمّة ما وراءها؟”.

وأمل الشيخ الخطيب أن “يكون ما جرى اختيارًا من الحكومة لمسار جديد يبدأ بدعوة فخامة رئيس الجمهورية إلى طاولة حوار حول استراتيجية للأمن الوطني تحمي لبنان وتعيد للبنانيين لحمتهم الوطنية بعيدًا عن الانقسامات التي لا تخدم سوى العدو”.

وهذا نص رسالة الشيخ الخطيب من مشهد:

بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله ربّ العالمين، والصلاة والسلام على سيد المرسلين، سيدنا ومولانا أبي القاسم محمد، وعلى آله الطاهرين وأصحابه المنتجبين، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.

بمناسبة مرور ألف وخمسمائة عام على ولادة خاتم النبيين وسيد المرسلين، نجدد للمسلمين والمؤمنين التهنئة والتبريك الذي شكّل حدثًا تاريخيًا عظيمًا، ليس فقط على الصعيد الجغرافي والتاريخي الخاص بوقوع الحدث، أي على صعيد مكة أو جزيرة العرب، وإنما على الصعيد الأوسع جغرافيًا، وما صاحبه من أحداث كونية جعلت كعلامات دالة على ولادة النبي الموعود الذي بشر به نبي الله عيسى بن مريم تقريبًا قبل 750 عامًا كما جاء في الكتاب العزيز عن لسانه في سورة الصف الآية السادسة، وهو الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، قول الله تعالى:
“وإذ قال عيسى بن مريم يا بني إسرائيل إني رسول الله إليكم مصدقًا لما بين يدي من التوراة ومبشِّرًا برسول يأتي من بعدي اسمه أحمد”
وكان أهل الكتاب ومنهم المجوس واليهود والنصارى يترقّبون ولادته في مكة في هذا الزمان، وقصة سلمان الفارسي مشهورة حيث أتى إلى سوريا يبحث عن ولادة النبي، واتّصاله بأحد رُهبانها وأخباره له عن قرب ظهوره في مكة المكرمة، مما دفعه إلى أن يقصدها مع إحدى القوافل التي عمدت إلى بيعه من رجل يهودي من أهل يثرب، وتناهى إلى سمعه بظهور النبي في مكة إلى آخر القصة.

وكان اليهود أيضًا يستفتحون على الأوس والخزرج أنه سيخرج في هذا الزمان نبي في مكة، وأنه سيكون منهم. وفي ذلك يقول الله تعالى (فلما عرفوا ما جاءهم من الحق كفروا به) – أي حينما عرفوا أن محمّدًا هو النبي حقًّا، ولكنهم لأنه ليس منهم كفروا به.

إذاً، فقد كان الجميع من أهل الديانات يترقّبون ظهور النبي في هذا الزمن وفي مكة، استنادًا إلى علامات وأحداث ستقترن بولادته. وقد حدثت بالفعل.

وقد ورد ذكر بعضها في بعض المصادر، وبغضّ النظر عن تفاصيلها، فإن ترقّب العارفين من أهل الكتاب ولادته في هذا الزمن، وانشغالهم في البحث عنه، كافٍ في الدلالة على اعتمادهم علامات وأحداث ليست عادية قد وقعت.

هذا من ناحية، ومن ناحية أخرى أن التحولات الفكرية والثقافية والاجتماعية والسياسية والعلمية التي تحقّقت على يديه مباشرة أو نتيجة لهذا التحول، أرَّخت لمرحلة جديدة انعكست على الحياة البشرية والإنسانية المادية والمعنوية على حد سواء، محققة على الصعيد العملي قول الله تعالى (وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين) وأنه (الرحمة المهداة).

فقد أخرج الناس من الظلمات إلى النور، من ظلمات الجهل المتحكم بهم إلى نور الإيمان والمعرفة والعلم، ومن الاعتماد على الأساطير وعبادة الأصنام وتقليد الآباء، وافتقاد الأسس والقيم الإنسانية في الحياة الاجتماعية، وغياب التطلّع لتطويرها وانسدّاد الأفق نحو مستقبل أفضل، فضلاً عن التفكير في مشاركة الآخرين ممن حولهم من المجتمعات المتقدّمة في صناعة الأحداث ومجرياتها ونتائجها، فقد اكتفوا بما هم عليه.

ويلخّص جعفر بن أبي طالب الشهيد ذو الجناحين الحال التي كان عرب الجزيرة عليها، حين سأله ملك الحبشة عما ادّعاه عمرو بن العاص في حقه مع من هاجر معه إلى الحبشة لتبرير طلبه في تسليمهم له، يلخّص لملك الحبشة الحال التي تحكم حياة العرب بقوله:
“أيّها الملك، إنّا كُنّا قومًا أهل جاهلية، نعبد الأصنام، ونأكل الميتة، ونأتي الفواحش، ونقطع الأرحام، ونسيء الجوار، ويأكل القوي منا الضعيف.”

جمود في الفكر وحياة غارقة في الفساد، وانحطاط في الأخلاق والقيم، والاعتماد في تحصيل أسباب العيش على الغزو، مما أفقد الحياة الاستقرار والإبداع، وظلم وتوحّش وظلمات مطبّقة بعضها فوق بعض، ومعايير تفتقر إلى أبسط قواعد الحق والعدل.

إذا كانت الحياة خارج الجزيرة العربية محكومة بأنظمة اجتماعية متمدّنة افتقدتها الجزيرة العربية، ولكنها لم تكن أفضل حالًا من حيث المعايير المعتمدة في تطبيق العدالة الاجتماعية، ولا في الأهداف التي تسعى لتحقيقها، وجلّ ما كانت تسعى إليه هو السيطرة وتوسيع النفوذ، أي القوة الغاشمة تجاه الآخر، أو في الأسس التي تبرّر وجودها.

أما ما جاء به الإسلام فقد شرحت الآية مبينة أنّه قائم على أساس الإيمان بالله والقيم التي جاء بها، من الإيمان بكرامة الإنسان والمساواة بين الناس في الحقوق والواجبات، وجعل معيار التفاضل بين الناس على أساس التقوى، وليس العرق والنسب أو المال والكثرة والقوة، وإطلاق الحرية للعقل في التفكير والبحث، ومحاربة التقليد والجمود والجهل، وأن هذه القيم تمثل رسالته للعالم أجمع، فلا فضل لعربي على أعجمي، ولا لأبيض على أسود إلا بالتقوى، ومواجهة الظلم وتحقيق العدل، انطلاقًا من أنّ الإيمان بالله تعالى، الذي هو العدل المطلق، هو المبدأ الأساس الذي يصحّح للبشرية مسارها ويمنع انجرارها نحو الفساد. وكل بناء يتجاوز هذا المبدأ ولا يقوم على هذا الأساس هو انحراف عن الخط المستقيم، ولا يقوم على أساس متين وسرعان ما يسقط.

وقد بنى الإسلام نظامه الاجتماعي وسياساته الاقتصادية والاجتماعية والتربوية والتشريعية على أساس توحيد الله تعالى وعدالته، في انسجام تام بينها، دون أن يستطيع أحد أن يسجل أي خلل في ذلك. وهذا لم يقتصر على المستوى النظري، بل تعداه إلى المستوى العملي التطبيقي، وإن كان لفترات وجيزة.

هذا على مستوى الحكومات، أما على المستوى الفردي أو المجتمعي فقد انعكست تعاليم الإسلام على تصرّفات الأفراد والمجتمعات بشكل عام في مجال العلاقات والسلوكيات بشكل إجمالي. فما زالت مجتمعاتنا تتحكّم في سلوكياتها الفردية والاجتماعية القيم والأخلاق الإسلامية، وإن بدت في المرحلة الحاضرة قد تأثّرت بالقيم المادية الغربية وتخلّت عن بعض قيمها الدينية وأخلاقياتها الإسلامية، ووقعت تحت تأثير العادات والسلوكيات الغربية، في ازدواجية متعارضة بين الإيمان النظري والسلوك العملي، نتيجة التخلف في فهم أسباب هذه الظاهرة. وكان الأجدر بها أن تبحث عن أسباب التخلف وتعمل على إصلاحه. فهم مثلاً يؤمنون بأن النصر بيد الله ينصر من يشاء، ولكنهم عمليًا يعتمدون مبدأ التوازن في القوى المادية ويتخلّون عن المواجهة ويختارون الاستسلام.

نعم، هم اختاروا الاستسلام للعدو. والاستسلام هنا لم يكن اضطراريًا لو أنهم لم يعتمدوا موازين القوى المادية، واعتمدوا على الله تعالى. كما لو أنهم اعتمدوا الصبر سلاحًا لهم في مواجهة العدو، ولكنهم آثروا الراحة والحصول على النتائج بسرعة، فلم يمتلكوا النفس الطويل في الصراع. لقد أرادوا الحصول على كل شيء بسرعة، كما هو حال البعض في سعيه للحصول على بعض المناصب في الدولة، لا ليخدم شعبه ودولته وإنما ليخدم جشعه، فيلجأ إلى طرق الفساد ليجمع المال.

وهكذا فإن هناك من يثبّط عزيمة الناس، ليس خوفًا عليهم ولا لأنه يخاف عليهم أو على البلد، وإنما لأنه يرى في البلد سلعة يُباع بها المال، أو لا يرى في العمالة مشكلة، أو يرى فيها مشكلة لكنه يضعف أمام الحاجة أو متطلبات المواجهة، فيحسّن القبيح ويقبح الحسن، ويخلط على الناس الأمور، فيلجأ إلى مواطن الضعف فيها ليعزّزها لديهم، وخاصة في لبنان البلد المتنوع طائفيًا الذي أسّس على أساس خاطئ، وبُني نظامه على أساس طائفي بحجة الحفاظ على الأقليات والخوف عليها من الذوبان. فبدل أن يعزز الشعور بالمواطنة ويعمَد إلى بناء الدولة ليشعر الجميع بحمايتها، لجأ إلى تعزيز الطائفية التي أضعفت الدولة وولّدت الكراهية بين الطوائف وعرضت الكيان للضعف، والطوائف لمزيد من الخوف، وجرّها للاستسلام للعدو بحجة الدفاع عن نفسها خوفًا من الآخرين.

لقد كانت كلها ذرائع مدعاة ليس لها أي أساس واقعي أو منطقي، لا تخدم سوى العدو. ومن هذا المنطلق جُرِّد هؤلاء أسلحتهم الدعائية لينقضوا على المقاومة التي شكلت درعًا للبنان بعد أن حرّرت أرضه من المحتل، من غير جرم ارتكبه في حق أحد، سوى أنها جعلت من لبنان بلدًا يُحسب له العالم أيما حساب ما كان ليكون من دونها.

وقد انكشف للغالبية من اللبنانيين زيف إدّعاءاتهم الظالمة بحقها وقوة منطقها، وخاصة بعدما تبيّن من كل ما جرى أن العدو ومن خلفه، لا يمكن الركون إلى عهودهم ومواثيقهم، الأمر الذي اضطر الحكومة، إلى جانب الموقف الصلب من المقاومة وبيئتها، إلى عدم السير بقرارها في حصر السلاح ضمن مهلة زمنية محددة. ويكفي لهؤلاء برهانًا ما تعرضت له الجمهورية الإسلامية من خديعة من جانب الولايات المتحدة، وما تعرضت له دولة قطر الشقيقة من عدوان على سيادتها بمحاولة غادرة من العدو الصهيوني لاغتيال الوفد المفاوض من حركة حماس، فيما المفترض أنها محمية من أكبر القواعد الأميركية في المنطقة الموجودة على أرضها.

ويكفي أن هذا العدو يصرّح علنًا وبشكل سافر عن هدفه في ضم لبنان إلى مشروعه في تحقيق إسرائيل الكبرى، فهل بعد هذا من عذر لحاملي لواء إسرائيل في نزع سلاح المقاومة؟ وما هو الوصف الذي يستحقونه بعد ذلك؟ وأين دولة السيادة من حاملي لواء المطلب الإسرائيلي فيما تريد نزع سلاح الدفاع عن السيادة، أم أن وراء الأكمّة ما وراءها؟

نأمل أن يكون ما جرى اختيارًا من الحكومة لمسار جديد يبدأ بدعوة فخامة رئيس الجمهورية إلى طاولة حوار حول استراتيجية للأمن الوطني تحمي لبنان وتعيد للبنانيين لحمتهم الوطنية بعيدًا عن الانقسامات التي لا تخدم سوى العدو.

المصدر: موقع المنار