الأحد   
   05 10 2025   
   12 ربيع الثاني 1447   
   بيروت 13:56

محطات معركة أولي البأس.. رواية أهل الصمود

بعد تحرير العام 2000 شرع العدو الاسرائيلي بالتحضير لعملية انتقامية ضخمة ضد بنية المقاومة في لبنان. العملية هذه كانت مقررة في تشرين الأول من العام 2006، الا أن أسر الجنديين الإسرائيليين على يد المقاومة الإسلامية في لبنان سرّع الاقدام على هذه العملية التي كان حصيلتها 121 جنديًا صهيونيًا، ونتج عنها اعلان لقرار 1701 بالإضافة إلى تشكيل لجنة “فينوغراد” من الجانب الإسرائيلي، والتي بنى عليها نظرية المعركة بين الحروب في التعامل مع حزب الله، بنية تدمير القدرة عبر الاغتيالات واستهداف القدرة النوعية للمقاومة، إضافة إلى تفخيخ أجهزة النداء والتي جرى العمل عليها منذ العام 2018، كل ذلك تمهيدًا لحرب تنهي مشروع المقاومة في لبنان.

لقد أبدى العدو استعداده للتصعيد المباشر، بالتزامن مع بدء معركة اسناد غزة بعد عملية “طوفان الأقصى” التي قامت بها حركة حماس في غزة في 7 تشرين الاول 2024.

ارهاصات الحرب

رغم اعلان سيد شهداء الامة عن عدم نية لبنان الذهاب الى حرب، وتصرف حزب الله بحكمة على المستوى العملياتي في الرد على استهداف القادة كي لا تذهب الأمور الى حرب واسعة؛ الا ان مجلس الحرب الصهيوني المصغّر بدأ في شهري تموز واب من العام 2024 مداولات جدية للتصعيد العسكري في لبنان، وقد تأكدت هذه النية عند استهداف القائد الجهادي السيد “فؤاد شكر” في قلب الضاحية في 30 تموز من العام 2024.

بعد ذلك أتى تصرف العدو بإجرام منقطع النظير في 17 و18 أيلول عندما قام بتفجير أجهزة النداء- “بيجرز” والأجهزة اللاسلكية وذلك قبل الموعد المقرر للتفجير، لورود معلومات لدى العدو عن شكوك لدى المقاومة حول هذه الأجهزة. لاحقًا في 19 أيلول عقد قادة الاحتلال جلسة لاستغلال حالة الصدمة لدى المقاومة والشروع بتنفيذ العمل العسكري المقرر ضد لبنان. مع العلم ان العديد من الوثائق الإسرائيلية كانت تؤكد النية المبيّتة لدى العدو لشن هجوم واسع على لبنان، وقد عبر عن ذلك قادة الاحتلال العسكريين والسياسيين بعشرات التصريحات منذ العام 2006 وحتى العام 2023.

بدأ العدوان على لبنان في ال 20 من أيلول 2024 أي بعد يومين من عملية تفجير أجهزة الاتصال اللاسلكي، قام العدو باستهداف قادة من قوة الرضوان في المقاومة خلال اجتماع لهم في الضاحية الجنوبية لبيروت. في اليوم التالي للاغتيال اطلق حزب الله 90 صاروخًا على “صفد” و”كريات شمونة”، ليرد العدو ب 200 غارة مركّزة في الجنوب والبقاع. تلى ذلك في 23 أيلول قيام العدو بحملة جوية على الأراضي اللبنانية بحوالي 1600 غارة جوية بمشاركة 250 طائرة حربية، أدت الى نزوح الأهالي عن بيوتهم في الجنوب والبقاع، وقد اسمى العدو هذه العملية ب”سهام الشمال”.

في النهار ذاته جرى اتصال بين مستشار الامن القومي الأمريكي “جيك سوليفان” ووزير الشؤون الاستراتيجية الصهيوني “رون ديرمر” هدفت الى التوصل لاتفاق وقف اطلاق نار للذهاب الى مفاوضات أوسع في الجانبين اللبناني والفلسطيني (في غزة)، وقد وافق سيد شهداء الامة على هدنة مدتها 21 يومًا، الا ان مسار الاحداث تدحرج عندما اتخذ رئيس وزراء العدو “بنيامين نتنياهو” قرار اغتيال امين عام حزب الله السيد حسن نصرالله في 27 أيلول أي بعد أيام قليلة على التداول في موضوع الهدنة. بعد ذلك وتحديدًا في 30 أيلول أعلنت وزارة الخارجية الامريكية دعمها لانطلاق عملية برية إسرائيلية محدودة في جنوب لبنان.

العملية البرية

بعد منتصف ليل الأول من تشرين الأول 2024 اعلن المتحدث باسم الجيش الصهيوني بدء عملية ضد ما اسماها “اهدافًا نوعية” في عدد من القرى الحدودية اللبنانية. الا ان الحقيقة كانت ان العدو يسعى الى انشاء منطقة عازلة بعمق 15- 16 كلم داخل الأراضي اللبنانية بحسب ما صرح به مسؤول امريكي لقناة “ان- بي- سي” واكده الاعلام الإسرائيلي. لقد استفاد العدو من حروبه السابقة ولم يعد يعلن الأهداف الحقيقية لعملياته العسكرية كي لا يُحرج امام الجبهة الداخلية الاسرائيلية وامام الرأي العام الدولي الذي يمده بالسلاح والتمويل دون تحقيق أهدافه، وتحسبًا لقوة الدفاع التي قد تواجهه مع المقاومة، أي ان شكل المعركة وتدحرجها اثبت ان النية المبطّنة للعدو هي القضاء على المقاومة في لبنان.

تأخرت العملية البرية بفعل عملية “الوعد الصادق 2” التي نفذتها الجمهورية الإسلامية الإيرانية ردًا على اغتيال سماحة السيد حسن نصر الله والشهيد إسماعيل هنية (اغتاله العدو الصهيوني في 31 تموز 2024 في طهران)، عبر استهداف قاعدتي سلاح الجو “نيفاتيم” و”تل نوف” في كشف واضح عن ضعف الدفاعات الجوية الصهيونية.

بدأت العملية الصهيونية في الجنوب اللبناني، مع خشية صهيونية واضحة من العملية، برزت هذه الخشية في أسلوب التقدّم الحذر الذي اتبعه العدو، وعلى الرغم من هذا الحذر قُتل 14 جنديًا صهيونيًا في الساعات الأولى في كل من العديسة ومارون الرأس الحدوديتين، بالتزامن مع اطلاق المقاومة 180 صاروخًا على صفد، نهاريا، حيفا وعكا، في تأكيد واضح على ان المقاومة تجاوزت حالة الصدمة التي سعى العدو الى خلقها بما فعله في سابق الأيام، واظهارًا للتعافي العملياتي السريع لدى المقاومة بكافة أركانها، رغم الاستمرارية للغارات الجوية والقصف دون توقف من قبل العدو إضافة الى الاطباق الجوي الاستخباري الذي اختلقه العدو بسلاح المسيرات على كافة الأراضي اللبنانية.

في منتصف ليل الثالث من تشرين الأول، نفذت طائرات العدو عملية اغتيال في الضاحية الجنوبية لبيروت، اسمى العدو العملية باسم “ضوء القمر” وقد اسفرت هذه العملية عن اغتيال الأمين العام المنتخب سماحة السيد هاشم صفي الدين، في محاولة يائسة من العدو لقطع سبل الإدارة والسيطرة والترميم لدى المقاومة، ثم قام العدو باستمرار قصفه على النقطة المستهدفة لكل من يحاول الاقتراب لرفع الأنقاض ومحاولة انقاذ السيد صفي الدين ومن معه في ترسيخ واضح للهمجية والإرهاب الذي يتعامل به العدو دون ادنى المعايير الإنسانية والأخلاقية، ليتم رفع جثمانه الطاهر في 23 تشرين الأول.

أدى هذا الاغتيال الى ترسيخ نمط القتال الاستشهادي لدى المقاومة عوضًا عن ارهابها؛ المقاومة التي تولى امانتها العامة سماحة الشيخ نعيم قاسم دون الإعلان عن ذلك قبل التأكد من استشهاد السيد هاشم صفي الدين. على ضوء الاستهداف الحاصل في الثالث من تشرين الأول، نقذ حزب الله بعد ساعات من الاغتيال عملية واسعة استهدفت القواعد العسكرية الجوية في الشمال الفلسطيني المحتل ومنطقة الكريوت في حيفا بمئات الصواريخ، بالتزامن مع مقتل جنود إسرائيليين في اشتباكات العديسة ومارون الراس ويارون. تلى ذلك 18 هجومًا بريًا وجويًا منفصلًا خلال يوم واحد في 5 تشرين الأول، من بينها استهداف قاعدة 7200 جنوب حيفا بواسطة مسيرتين.

أدت هذه العمليات الى تصاعد المخاوف داخل الكيان بشأن صعود قدرات حزب الله، على الرغم من تصريحات مسؤوليه التي زعمت ان قدرات الحزب تقلصت الى حد كبير. في العاشر من الشهر نفسه، شنت المقاومة هجومًا جويًا بواسطة مسيرات انتحارية استهدفت قاعدة الكارياه، التي تضم مقرات عسكرية رئيسية، بما في ذلك وزارة الحرب وقيادة الجيش الصهيوني. وبعد يومين أي في 12 من تشرين الأول انتقل العدو الى المرحلة الثانية عبر رفع الضغط الميداني، ليرد الحزب بسلسلة هجمات دقيقة كان أولها مصنعًا للمتفجرات في حيفا، تلاها في ليل 13 تشرين الأول، هجومًا مسيّرًا على قاعدة “بنيامينا”، اسفر عن مقتل 4 واصابة 67 كلهم من لواء غولاني، وقد وصف الاعلام العبري العملية بالقاسية والمؤلمة والأكثر دموية.

أدت العملية الى زوال النشوة المؤقتة التي أصيب بها العدو في دليل واضح لكل من حكومة العدو وجبهته الداخلية بان المقاومة حاضرة في كل ميادين العمل العسكري. في 19 تشرين الأول، استهدفت المقاومة منزل رئيس الوزراء الإسرائيلي “بنيامين نتنياهو” في تحدي مذل للمنظومة الدفاعية للجيش الصهيوني. استمرت عمليات المقاومة بالتصاعد الى ان وصلت الى ذروتها في 25 تشرين الأول ليعلن حزب الله عن 48 بيانًا خلال يوم واحد، بالتزامن مع محاولات التقدم الصهيوني في قرى شمع والخيام، واشتداد المواجهات البرية في قرى الخيام، قوزح، طيرحرفا، الطيبة، وهي مواجهات اخذت فارقًا نوعيًا في الحرب، فمنعت العدو من التقدم الى مدينة صور في القطاع الغربي ووضعت حدًا لهجومه جنوب الليطاني في القطاع الشرقي.

في 30 تشرين الأول أعلن حزب الله عن تعيين الشيخ نعيم قاسم، امينًا عامًا لحزب الله، بعد ان كان يتولى القيادة منذ اغتيال السيد هاشم صفي الدين. ساهم هذا الإعلان في رفع معنويات الجمهور والمقاومة، خصوصًا عبر اطلالاته الإعلامية، التي اعلن من خلالها تسمية الحرب التي تخوضها المقاومة الإسلامية ب”اولي البأس”، في تحد واضح للعدو عن استمرار حزب الله في ترميم قدرته والتعافي الشامل. تزامن هذا الإعلان مع استهداف قاعدة “تل نوف” قرب “تل ابيب” بصواريخ دقيقة أدخلت الى المعركة مثل صاروخ “قادر” و”عماد” الاستراتيجيين لتعزيز فعالية عمليات المقاومة. أدت هذه العمليات الى تكثيف العدو لقصفه اليومي على بيروت وضاحيتها الجنوبية في محاولة يائسة أخرى لكسر المقاومة وإرهاب المدنيين ولكن دون جدوى بفعل استمرار المقاومة بالعمليات والتصعيد الميداني.

بعد ما اثبتته المقاومة من تصاعد مستمر في عملياتها، بدأ كيان العدو اتصالاته بواشنطن بهدف لقاء المبعوث الأمريكي “عاموس هوكشتاين”، الذي زار لبنان مرتين بهدف تفعيل التفاوض والمضي باتجاه حراك دبلوماسي عاجل لوقف اطلاق النار، تفاديًا لحرب استنزاف سعى حزب الله الى تطبيقها على العدو، إضافة الى سعي العدو لاستثمار إنجازاته بسرعة قبل ان تؤدي عمليات المقاومة الى تغيّر قد يحصل في الجبهة الداخلية والاعلام الصهيوني المعارض لحكومة نتنياهو.

مع استمرار عمليات المقاومة التي بلغت ذروتها في 24 تشرين الثاني، وهو اليوم الذي اطلق عليه الإسرائيليون اسم “الاحد الأسود”. ففي هذا اليوم نفذ حزب الله اكبر عدد من عملياته منذ بدء الحرب، بواقع 51 عملية شملت اطلاق 350 صاروخًا، من بينها استهداف قاعدة حيفا التقنية، إضافة الى اطلاق صاروخ “فاتح 110” الذي احدث دمارًا واسعًا في عمق “تل ابيب”. وقد اعلن الإسعاف الصهيوني عن إصابة 11 شخصًا في نهاريا، حيفا، بيتاح تكفا شرق تل ابيب، وكفار بلوم في الجليل الأعلى.

كما وأكدت القناة 13 العبرية اندلاع حرائق في مواقع متعددة نتيجة إصابات مباشرة بالصواريخ، مشيرة الى ان مدينة حيفا بدت مشتعلة ومهجورة وكادت تغلق بالكامل. اكدت هذه التقارير عدم قدرة العدو على لجم المقاومة عن الاستمرار بعملياتها والتصاعد اليومي، رغم التفوق التكنولوجي والاطباق الجوي شبه التام الذي عوّل عليه العدو في إنجاح حربه الفاقدة لكافة المعايير، وبالتالي رسخت المقاومة فكرة ان لا مأمن في العمق الصهيوني في ظل الحرب الشعواء.

وبذلك، يمكن اعتبار أداء مسيّرات المقاومة بين تشرين الأول وتشرين الثاني 2024 ناجحًا على المستويين الميداني والسياسي، إذ ساهم بفعالية في خلق بيئة ضغط دفعت الاحتلال إلى التفكير جديًا بإنهاء القتال عبر مسار تفاوضي. وخلال هذه الفترة، نفّذت المقاومة سلسلة من العمليات النوعية؛ من بعض ما شملته:

40 اشتباكًا مباشًرا مع العدو / استهداف قاعدة عسكرية في “ناشر” / استهداف تجهيزات فنية والفوج اللوجستي الإقليمي / ضرب 8 مقرات قيادية مستحدثة / استهداف 38 تحرّكًا لجنود العدو / تدمير 3 قواعد دفاع جوي / ضرب 16 نقطة تموضع / استهداف 4 مقرات احتياط في الفيلق الشمالي – قاعدة عميعاد / استهداف 45 ثكنة عسكرية / إسقاط عدد من الطائرات المسيرة من طراز “هرمز 450″ و”هرمز 900” / استهداف 6 منشآت للصناعات العسكرية الإسرائيلية.

في مقابل ذلك، فشلت الغارات الجوية وعمليات التوغّل البري في تحقيق أهدافها المضمرة، وعلى رأسها تدمير البنية التسليحية للمقاومة. فقد واصلت المقاومة إطلاق الصواريخ والمسيّرات باتجاه العمق الإسرائيلي، بالتوازي مع تصدٍ شرس لمحاولات التوغّل، فيما أكدت المعطيات الميدانية استمرار التنسيق الفعّال بين القيادة والميدان، وصمود منظومة الاتصالات بعد التعديلات الطارئة عليها، على الرغم من الخرق الصهيوني لها.

ميزان الردع

على الرغم من الشراسة غير المسبوقة التي اتّسم بها عدوان الاحتلال، إلا أن سلوكه أظهر التزامًا بسقوف واضحة في استهداف البنية التحتية والمدنيين، وهو ما يعكس الأثر المتراكم للردع الذي رسّخته المقاومة الإسلامية خلال السنوات الماضية. وفي الوقت الذي لجأ فيه العدو إلى تنفيذ عمليات أمنية وعسكرية، امتنع بدرجة كبيرة عن اعتماد نمط القصف العشوائي الواسع (باستثناء نهار بداية العدوان في 23 أيلول وبعض الضربات المتفرقة خلال العدوان)، هذا الانضباط لم يكن وليد اعتبارات إنسانية، بل جاء نتيجة توازن ردعي مدروس وقواعد اشتباك عسكرية صارمة، وتهديد المقاومة لمستوطناته المدنية وعدم قدرتهم على حمايتها بالأنظمة الصاروخية، كما وتأثّر بعوامل متداخلة من بينها هواجس التصعيد ومخاوف الانزلاق نحو مواجهة شاملة خارجة عن السيطرة.

اتّسم السلوك الصهيوني بمفارقة واضحة: تصعيد متدرّج ومدمّر ضد البنية القيادية والعسكرية للمقاومة، يقابله امتناع محسوب عن توسيع دائرة الاستهداف ضد المدنيين. وقد تجلّى ذلك في إنذارات القصف المسبقة واستهداف مراكز مدنية محددة ذات صلة بالمقاومة، كالمؤسسات الصحية والمالية والإعلامية، من دون التوسّع في ذلك، ما يدلّ على إدراك العدو للردع القائم وحساسية جبهته الداخلية، التي لم تكن لتتحمّل تصعيدًا مضادًا على المستوى المدني، خصوصًا في ظل قدرات المقاومة التي أثبتت فاعليتها في استهداف “تل أبيب” والبنى التحتية الحيوية للكيان في لحظات حاسمة من الحرب.

اتفاق وقف اطلاق النار

أخفق العدو ميدانيًا في تحقيق تغيير جوهري على الجبهة اللبنانية خلال العملية البرية، لكنه مهد لاستحداث منطقة عازلة عبر تدمير المنازل وحرق الأراضي في الجنوب والذي كان عاملًا مهمًا في خطته لليوم التالي للحرب، وعجز ايضًا عن فرض سيطرة مستقرة على الأرض رغم مشاركة خمس فرق قتالية. مقابل ذلك، نجحت المقاومة في تعزيز مواقعها والحفاظ على قدراتها القتالية والصاروخية، والتكيّف المرن مع متغيرات الميدان. كما تهاوت رهانات العدو على سياسة الاغتيالات، التي لم تحقق تحولًا جذريًا في الميدان، ما دفعه إلى التراجع خطابيًا والإيحاء بأن العملية البرية كانت “محدودة”.

مع تراكم التكاليف البشرية والنفسية والاقتصادية، تصاعدت الدعوات داخل الكيان لوقف الحرب، وأظهرت استطلاعات الرأي تشكيكًا متزايدًا بجدوى التصعيد على جبهتي الشمال والجنوب، فيما عادت المعارضة السياسية إلى الواجهة مطالبة بإسقاط حكومة “نتنياهو”. وترافق هذا التراجع مع مشاكل في الجبهة الداخلية وإدراك القيادة الصهيونية، وعلى رأسها “نتنياهو”، استحالة تحقيق النصر العسكري الموعود، ما دفعه إلى إنهاء العملية بعد نحو شهرين والانتقال إلى الدور الأمريكي المساند للاحتلال في إدارة وقف إطلاق النار. وفي هذا السياق، زار الوسيط الأميركي بيروت بتاريخ 19 تشرين الثاني حاملًا ورقة تدعو لبنان للقبول بالشروط الأميركية- “الإسرائيلية”، وتقترح تعديلات على القرار 1701، في محاولة لفرض “الاستسلام” تحت ضغط المعركة، بعد إخفاق الاحتلال في تحقيق أهدافه المضمرة ميدانيًا.

عملت واشنطن من موقعها كطرف منحاز للكيان على إدارة مسار وقف إطلاق النار عبر أدوات ضغط متعددة على الطرفين، من أجل إنجاز الاتفاق في ظل ضيق الوقت أمام إدارة الرئيس الأمريكي “جو بايدن”، وتقدير الاخيرة بعدم جدوى حرب الاستنزاف على الكيان الصهيوني، مع تحديد مهلة أسبوع لتوقيع الاتفاق، وبخاصة بعد الضربات النوعية التي نفّذتها المقاومة، مما اضطر العدو إلى القبول بوقف إطلاق النار الذي بدأ سريانه فجر الأربعاء 27 تشرين الثاني.

ما بعد الحرب

في فجر وقف اطلاق النار-الحدود الشرقية للبنان، بدأت تحركات جماعة “هيئة تحرير الشام” وسقط النظام السوري بعد 12 يومًا في 2024-12-8، ضمن مخطط إقليمي ودولي يهدف إلى قطع شريان الدعم الأساسي عن حزب الله ومنعه من إعادة ترميم قدراته العسكرية واللوجستية بعد الحرب، إذ رأت “إسرائيل” وحلفاؤها أن أي استقرار أو قوة متجددة في سوريا يشكل بيئة حاضنة لاستمرار فاعلية المقاومة وتطوير تسليحها. لذلك جرى العمل على ضرب سوريا سياسيًا وأمنيًا وعسكريًا لحرمان محور المقاومة من العمق الاستراتيجي الذي وفرته له سوريا طوال العقود الماضية.

وضمن سلسلة استثمار العدوان، لجأ الاحتلال إلى إجراءات ميدانية واستخباراتية تمثّلت بتمديد فترة الانسحاب المقرّرة لـ 60 يومًا مخترقًا اتفاق وقف إطلاق النار، ومستفيدًا من ضعف الحالة الوطنية لدى السلطة اللبنانية المستجدة، كما نفّذ الاحتلال توغلات إضافية واغتيالات وتدمير البنى التحتية في المناطق الحدودية، مع عمليات تضليل للمجتمع الدولي ومحاولة شرعنة برنامجه العدواني الجديد، من خلال خرق تفاهمات القرار 1701 واحتلال بعض النقاط الحدودية في الجنوب اللبناني. كما أراد العدو ومعه الولايات المتحدة فرض واقعٍ ميداني جديد، فرغم وضوح الاتفاق وآلية تطبيقه، أبرما اتفاقًا جانبيًا منح الأمريكي حرية الحركة في لبنان لصالح الكيان الصهيوني.

وفي العودة الى فجر يوم الأربعاء 2024/11/27، وعلى عكس التوقعات الصهيونية، عادت العائلات اللبنانية إلى قراها في جنوب لبنان مرفوعة الرأس، متحدية الالة العسكرية الإسرائيلية، في مشهد يبرز التناقض بين حالة المدنيين في الجنوب اللبناني ووضع المستوطنين في شمال فلسطين المحتلة.

تتجسّد عناصر ثبات مجتمع المقاومة وقوّته بصموده وصبره في معركة “أولي البأس”، وشجاعته وإقدامه بعد انقضاء مهلة الستّين يومًا من وقف إطلاق النار، لتحرير قراه الأماميّة باللحم الحيّ والصرخة العاتية، وصبره وعنفوانه عند استعادة جثامين أبنائه التي ذابت كالشموع العاشقة في أحضان تراب الأرض.

ولقد أظهر مجتمع المقاومة، رغم الخسائر والضغوط السياسية والإعلامية الداخلية، مواقف العزّ والإباء والثبات، والصبر والوفاء والعشق والولاء، بمعنويات عالية وثقة راسخة بوعد الله ونصره، ليبهر العالم بأسره. فبيئة المقاومة، كما خاطبها سيّد شهداء الأمّة، كانت ولا تزال أشرف الناس وأطهرهم، ولائقة بحمل الأمانة الإلهيّة، وبتحقّق النصر الموعود على يديها، مواجهةً أهداف العدو المتسلّح بكل قدرات العالم المستكبِر، ورافعين الرأس في كل المحطات. كما حصل في تشييع الامينين العامين رغم ترهيب الطائرات الصهيونية، وكما اثبتت في الانتخابات البلدية رغم عمليات التضليل والتحريض، وكذلك في منع مخطط الفتنة الذي عمل عليه مبعوث الرئيس الأمريكي “توم براك” ومساعدته “مورغان اورتيغوس”، عبر المحاولة لاحداث صدام بين الجيش اللبناني والمقاومة.

واجه حزب الله وحيدًا الكيان الصهيوني المدعوم بشكل مباشر من الولايات المتحدة عسكريًا واستخباراتيًا وسياسيًا وناريًا، إلى جانب دعم غربي واسع، ما جعل الحرب أقرب إلى حرب كونية ضد المقاومة في لبنان. وعلى الرغم من ذلك، استطاعت المقاومة الصمود والتكيف وتحقيق الإنجازات الميدانية. وأحد أبرز إنجازاتها كان استعادة القيادة والسيطرة وأداء القوة الصاروخية وسلاح الجو المسيّر، اللذين كسرا احتكار العدو للتفوق الجوي وغيّرا معادلات الاشتباك وصمود المجاهدين على الحافة الأمامية. كذلك تمكنت المقاومة من تجاوز مرحلة الانكشاف وحماية ما تبقى من قياداتها، وتوقيف الاغتيالات، واستعادة القدرة على التواصل والتحكم والسيطرة والتشغيل.

أخيًرا، فإن صمود جمهور المقاومة وإيمانهم بخيارها واحتضانهم لها، إلى جانب التزامهم بوصية سيد شهداء الامة بالثبات على طريق المقاومة، إلى تماسكهم قيادة ومجاهدين وشعبًا، كانت عناصر حاسمة في تحقيق الإنجاز التاريخي. كما أن المجاهدين المخلصين، العابدين، العاشقين، الثابتين، المتولّين لأوليائهم، والمتبرئين من أعدائهم، الأقوياء، الأشدّاء، المجهّزين، الموحّدين، المنظَّمين، المطيعين، الفدائيين، المؤثرين، الداعين بالشهادة، الحسينيين، هم الذين رسموا معالم الرواية ونتائجها التي وعدهم الله بها، “وما النصر الا من عند الله العزيز الحكيم”.

المصدر: الاعلام الحربي + مركز الاتحاد للأبحاث والتطوير + موقع المنار