الثلاثاء   
   14 10 2025   
   21 ربيع الثاني 1447   
   بيروت 21:42

القدس في عقل وقلب الشهيد الأسمى… من كربلاء الى الإنسانية

“نحن شيعة علي بن أبي طالب في لبنان والعالم لن نتخلّى عن فلسطين ولا عن شعب فلسطين”. يحسب القارئ انها كانت آخر كلمات الشهيد الأسمى سماحة السيد حسن نصر الله حول القدس. ولكنها لم تكن كذلك! أطلقها عام 2013!

ولكنها كانت لسان حال الثلاثين عاما التي سبقتها والعشرة أعوام التي تلتها من الجهاد المتواصل والدؤوب ، حيث عمل خلالها من أجل ان تكون هذه القضية قضية اتباع أهل بيت النبوة التي ينتمي اليهم على وجه الخصوص.

على خطى الأسلاف… مدرسة كربلاء…

مسيرةٌ سار خلالها على خطى أسلافه الذين كانوا الأكثر تأثيرًا على شخصيته والذين لطالما تحدث عنهم في خطبه: الامام السيد موسى الصدر الذي قال ان “اسرائيل شر مطلق”.. و الامام الخميني الذي وصفها “بالغدة السرطانية” ..والشيخ راغب حرب الذي اعتبر “المصافحة اعتراف” ..والسيد عباس الموسوي مع كلمته المشهورة “السلاح فقط هو الذي يمنع اسرائيل”.. وعلى خطى قائده حتى النهاية الامام السيد علي الخامنئي: ” يوم القدس يوم اصطفاف جبهة الحق ضد الباطل والعدل في مواجهة الظلم”.

في خضم الحرب ضد الإحتلال الإسرائيلي للبنان، بقيت فلسطين هي البوصلة، خاصة لدى المقاومين: من يطلع على وصاياهم ومنهم الاستشهاديين، خلال ثمانينيات وتسعينيات القرن الماضي، والتي كان مجتمع المقاومة يقرأها تباعاً ، يلفته أنهم كانوا يؤكدون فيها دعمهم لها وللإنتفاضة الأولى، و استعدادهم للقتال من اجلها. وان مواجهة الصهاينة في جنوب لبنان لا تنفصل عن مواجهتهم في فلسطين:”اليوم لبنان وغدا فلسطين”.

خلال العروض العسكرية للمقاومة ، بعد التحرير، عام 2000، التي كان أهل المقاومة لا يفوّتون حضورها ، اشتملت وحدات المقاومة الإسلامية على سرايا اطلقت عليها اسماء شهداء من الشعب الفلسطيني كما من فصائل مقاومته: من الجهاد الاسلامي و فتح وحماس.

أراد الأمين العام الشهيد من هذه البيئة ان تحمل على عاتقها مسؤولية دعم الشعب الفلسطيني، أكثر من غيرها، لما تحمله من إرث عقائدي محمدي علوي حسيني يخوّلهم ذلك. بل ومهدوي ايضا. وقد اعتبر ان الإرث الحسيني الذي يتم احياؤه كل عام هو الأرضية لهذه المواجهة. ولطالما تحدث عن هذه القضية بمفردات تعود الى التراث الكربلائي عندما نسف شرعية الكيان: “ألا إن الدعيّ ابن الدعي، هذا الاسرائيلي، هذا الموجود غير الشرعي ولذلك هو دعي ابن دعي، لأن أميركا أيضاً موجود غير شرعي.”. اطلق هذه الكلمات خلال خطاب عام 2024.

واذ كان عنصر مقارعة الظالم من العناصر التي قد يشترك فيها مع الشعوب الأخرى، المسلمة وغير المسلمة، كذلك القتل في سبيل الله او في سبيل قضية عادلة، الا ان للشهادة لدى ابناء أهل المقاومة طعم آخر. هي العرس، وهي الجمال، وهي العشق.

في مقابل عدو لا يعرف حدوداً في كرهه الوحشي القاتل المتفوق مادياً، لا بد من هذا العشق للشهادة ، لمواجهته و ملاحقته وإرهاقه حتى هزيمته. وقد اعتنقه كل القادة كما المجاهدين بل و أبناء مجتمعهم !

يُنقل عن الشهيد يحيى السنوار، في إحدى رسائله التي ارسلها الى الوسطاء وأعضاء المكتب السياسي للحركة في الخارج عام 2024، بحسب وول ستريت جورنال، بعدما أدت عملية “طوفان الأقصى” في السابع من اكتوبر 2023 الى الحرب انه قال: “علينا أن نمضي قدمًا على نفس المسار الذي بدأناه، أو فلتكن كربلاء جديدة”.

عاصمة الأرض وعاصمة السماء

لم يعتبر سيد شهداء الأمة قط ان هذه القضية الفلسطينية تعني الشيعة على وجه الخصوص. بل في بداية المسيرة، نظر اليها من جانبها الاسلامي العام. في الكتاب الذي لخص رؤيته للقضية الفلسطينية تحت عنوان “عاصمة السماء” ، اعتبر القدس “قضية الإسلام المركزية”.

ففي فلسطين المسجد الأقصى، القبلة الأولى للمسلمين و الحرم الالهي الثالث على الارض. اذا كانت الأولى والثانية مكان هبوط الوحي واستمراريته ونهايته، فإن الثالث هو مكان عروج النبي الى السماء. “القدس لا يمكن أن تكون عاصمة أبدية لدولة تسمى إسرائيل، إنّ القدس هي عاصمة فلسطين، هي عاصمة الأرض وعاصمة السماء”، أكد في هذا الكتاب.
فضلا عن كون فلسطين تضم مراقد العديد من الأنبياء الذين تحدث عنهم القرآن. يعرف اليهود عامة جيدا ان المسلمين يعتبرون “انبياء اليهود” هم انبياء الاسلام. على غرار ابراهيم ويعقوب يوسف وموسى وهارون وداوود و سليمان (ع).. وقد تحدث باسهاب عن ذلك البروفيسور موشي شارون من الجامعة العبرية في القدس المحتلة .

وبالتالي يعتبر الأمر مزاحمة ليس فقط على الأرض بل أيضا على التراث الديني، الأمر الذي ينسف نظرية استثنائية اليهود الدينية التي تشرع للصهاينة المتدينين الإستيلاء على فلسطين ! العقل الصهيوني يتمحور دوما حول تقديم استثنائيته في كل شيء… حتى في القتل!

يفهم انطلاقا من ذلك اطلاق المشروع الإبراهيمي الى جانب صفقة القرن. الذي و ان بدا يوحّد الأديان السماوية الثلاثة حول النبي ابراهيم (ع) كعنصر مشترك بينها، الا انه يكرس النظرة التوراتية التي لا تعترف بغير انبياء بني إسرائيل. بمن فيهم النبي عيسى والنبي محمد (ص). واذ كان أتباع التلمود المتدينون يرفضون الإعتراف بالمسيح لأنه ليس من بني داوود، فبعض متطرفيهم لا يزالون يستذكرون معركة خيبر. و هم يمنون انفسهم بالعودة اليها. فالعقل الصهيوني يبقى عالقا في التاريخ فضلا عن كونه انتقامياً بامتياز ولو بعد حين…

وكون هذه القضية إسلامية بالنسبة الى سماحته فإن كل الامة الإسلامية بمختلف شعوبها و اثنياتها وأعراقها معنية بها. “أنا لا أستطيع أن أفهم كإنسان مسلم كيف يمكن، في قياس التقوى أن يكون من يتخلّى عن القدس ويبيعها ويخذلها إنساناً تقياً”، أوضح في الكتاب الآنف الذكر. وقد نظمت مئات النشاطات حول الوحدة الإسلامية والتي كان يرعاها خلال أربعين عاما، موضحا ان بقاء المسلمين على خلافاتهم لا يمنعهم عن ان يتوحدوا حول فلسطين.

قضية قومية ووطنية و يسارية وإنسانية

على صعيد آخر سماحة الشهيد الأسمى اعتبر أيضا أن فلسطين قضية قومية عربية تخص العرب على وجه الخصوص. فهي ارض عربية مغتصبة بطبيعة الحال، الامر الذي يعني الشعوب العربية بكل طوائفها. وأجريت العديد من المؤتمرات المشتركة بين حزب الله والجهات القومية العربية. بل و قد جمعت سماحتَه لقاءاتٌ عدة مع بعض قياداتها وشخصياتها البارزة. منهم على سبيل المثال محمد حسنين هيكل الصحافي المصري العريق ورفيق درب الرئيس المصري الراحل جمال عبد الناصر، قائد القومية العربية الفذ. علما ان بداية انفتاح حزب الله على الآخرين، بعد الرسالة المفتوحة عام 1985، حصلت مع نجاح واكيم، رئيس حركة الشعب، أحد رموز التيار القومي الناصري اللبناني.

كما أكد سيد شهداء الأمة مرارا بأن قضية فلسطين هي قضية وطنية تخص الشعب الفلسطيني على وجه الخصوص. وذلك انطلاقا من موقف شرعي. في احدى خطبه التي وردت في كتاب “عاصمة السماء”، تطرق الى موقف علماء الشيعة الذين يعتبرون أن “فلسطين هي ملك للشعب الفلسطيني ويجب أن تعود اليه، وبأن إسرائيل كيان غير شرعي وغاصب ومحتل يجب أن يزول من الوجود”. كان هذا الكلام ردا على اولئك الذين كانوا يصطادون في الماء العكر عبر الحديث عن ما يسمى بمشروع صفوي شيعي يريد احتلال فلسطين.

ولطالما التقى بالشخصيات الفلسطينية من كل الاتجاهات. ولطالما اشاد بمقاومة شعب فلسطين و تضحياته منذ الانتفاضة الأولى فالثانية مرورا بالحروب الخمسة التي شنت عليه في غزة وخلال الاعتداءات في الضفة الغربية و مواصلة الاستيطان و العمل على تهويد القدس و الاعتداء على المسجد الأقصى… وحتى طوفان الأقصى. محذراً دوما لا تتركوه وحيدا! وقد أكد في خطبه خلال حرب الإسناد بأنه لن يبق وحيدا !

كذلك مع الشعب اللبناني على وجه الخصوص ، الذي عمّد القدس “مدينةً الصلاة” (مع اغنية فيروز وكلمات الشاعر سعيد عقل)، فقد تحدث معه و كأنه توأم الشعب الفلسطيني، معتبرا انه “لا امان للشعب اللبناني اذا كان لا امان للشعب الفلسطيني”. و ان من يقاتل من أجل الدفاع عن فلسطين انما يقاتل من أجل الدفاع عن لبنان. في حرب الإسناد، كرر ذلك مرارا.

واذ انتقد المسار التفاوضي الفلسطيني و العربي، مؤكداً انه لن يعيد الحق الفلسطيني، ركز على العلاقات مع فصائل المقاومة كافة، يمدها بالدعم السياسي كما العسكري و في التجربة العسكرية. وكانت حرب الإسناد هي المصداق!

كما ان سماحته اعترف بدور الاحزاب القومية واليسارية والوطنية في مقاومة الإحتلال ولطالما اشاد في خطبه عن المقاومة بالمقاومين القوميين و اليساريين والمقاومات القومية اليسارية. لم يعتبر ان المقاومة الاسلامية هي بداية العمل المقاوم ضد اسرائيل بل هي اكملت ما بدأه الآخرون في جبهة المقاومة الوطنية وحركة أمل. لاحقا أصبحت القضية الفلسطينية هي المنطلق الأساس للعلاقة مع هذه الاحزاب، التي شاركته أيضا مبدأ مصلحة لبنان الحر من مصلحة فلسطين الحرة. وقد دعمت دون تردد حرب الإسناد!

الإنسانية الناصعة والضمير العالمي

وفي البعد الأممي، اشاد سماحة السيد الشهيد بأحد رموز اليسار العالمي الرئيس الفينزويلي هوغو شافيز الذي كان من القادة القلائل الذي دعموا حزب الله خلال حرب تموز 2006. وقد طرد السفير الإسرائيلي خلالها . حيث قال سماحته “ان الرئيس هوغو شافيز تصرّف انطلاقاً من انسانيته صافعاً، بذلك وجوه أولئك الذين يستضيفون سفراء اسرائيل في عواصمهم ولا يجرؤون أن يفكروا في طردهم”، داعيا ً”ان يتعلم حكامنا من رجل في جنوب أمريكا كيفية التعامل مع اسرائيل”. قال ذلك في خطاب له عام 2009.

قبل موقف شافيز ، وغيره من القادة العالميين اليساريين، كان سماحته قد وسع أفق البيئة المعنية بمواجهة الصهيونية و مشروعها، منذ العام 2000، متوجها الى العالم أجمع، معتبراً ان للقضية الفلسطينية بعد انساني قائم على اساس رفض الظلم و تأييد العدل والدفاع عن كرامة الإنسان. بمعزل عن الانتماء الديني او الايديولوجي او الطائفي. وأطلق على الذين يؤيدون القضية الفلسطينية تسمية “الأحرار”. ربما اختار هذه التسمية اشارة الى الناشطين الغربيين الذين ارتقوا فوق أطماع دولهم السائرة في ركب المشروعٍ الاستعماري الذي أفرز المشروع الصهيوني او الناشطين الآخرين الذين رفضوا خضوع انظمتهم له.

خاطب السيد هؤلاء بـ “الضمير العالمي” و ركز على الجانب الانساني الاخلاقي معتبرا المشروع الصهيوني عدواً لا اخلاقياً وغير انساني.

كذلك كرر هذا المضمون في خطبه الأخيرة ، شاكرا شعوب العالم التي تنتفض لغزة. “ما جرى ويجري على الناس في قطاع غزة… يجب أن يهز ضمير كل إنسان في هذا العالم، يجب أن يزلزل وجدان كل الناس في هذا العالم، ويجب أن يستشعروا المسؤوليّة ماذا يجب عليهم أن يفعلوا اتجاه هذا العدوان وهذه الكارثة الانسانيّة، إنسانيًا وأخلاقيًا ماذا يجب أن يقولوا وماذا يجب أن يفعلوا وأن يعملوا، لكن الأهم أيها الأخوة والأخوات هي المسؤوليّة أمام الله سبحانه وتعالى.

يحلل بعض الباحثين ومنهم الأكاديمي Richard Norton ان هذا النوع من الخطاب هو محاولة لتأصيل موقف أخلاقي في اللاوعي الجمعي العالمي، بحيث يصبح دعم فلسطين ليس مجرد خيار سياسي، بل هو ضرورة تفرضها الطبيعة البشرية السوية. قائلا ان ما يسعى إليه السيد نصر الله هو “حشد دعم يتجاوز الحدود الدينية والطائفية، ويخاطب الضمير العالمي، مقدمًا المقاومة على أنها ردُّ فعلٍ مشروعٍ على عدوانٍ غير إنسانيٍّ”.

خلال مسيرة الأربعين عاماً، اعتبر قائد المقاومة أن إسلامية القضية الفلسطينية لا تتعارض مع كونها قضية قومية عربية كما قضية وطنية فلسطينية كما قضية تعني بعض اليسار في العالم، فهي قضيتهم جميعا بل تعني الإنسانية جمعاء. عليهم كافة واجبات تجاهها. ولديها حقوق عليهم بحسب عناوين مشاريعهم.

عيسى عندما يعود … ولصوص الهيكل

بل واعتبر الشهيد الأسمى أيضاً أن فلسطين قضيةً تعني المسيحيين. ” ليس في فلسطين مقدس إسلامي ومقدس مسيحي خارج دائرة التهديد من كنيسة المهد إلى كنيسة القيامة”، قال في خطاب يوم القدس عام 2002.

بالنسبة اليه، تأييد المسيحيين لقضية القدس هو ايضا تأييد لحقوقهم فيها. فهم ايضا معرضون للحرمان من أماكنهم المقدسة. نرى اليوم ذلك عندما يبصق اليهود المتعصبون على القسيسين المسيحيين في بيت لحم. حتى انهم يعيقون دخولهم الى كنيسة القيامة خلال احتفالاتهم في القدس.

واذ ذكر بأنهم يؤمنون بعودة المسيح ، كانت له رسالة أخيرة وجهها لهم في كانون الاول 2024، خلال آخر أعياد الميلاد التي شهدها. في خضم حرب الابادة على غزة: “المسيح الذي نقرأ عنه في الانجيل والقرآن، وفي سيرته وأخلاقه وفي قيمه، المسيح الذي سيعود الى الدنيا، نصير من سيكون؟ هذ المسيح الذي تعملون ليعود، سيكون نصير من ؟ هل سيكون نصير الطغاة والعتاة، والجبابرة والفراعنة هل سيكون نصير وعون القتلة المتوحشين المجرمين الذي يسفكون دماء ملايين البشر من أجل السيطرة على النفط والمال والأسواق؟ هل سيكون نصير وعون اولئك قساة القلوب، الذين يهدرون الكثير من ارزاق هذه الارض، و من قمحها ليحافظوا على سعره وعلى قيمته بالدولار، بالوقت الذي يموت فيه عشرات ملايين من الجوع في العالم؟ هل هذا هو عيسى ابن مريم؟ ام ان المسيح ابن مريم الذي نعرفه ويعرفه المسيحيون سيكون نصير الحفاة والضعفاء والفقراء والمساكين والمستضعفين والمعذبين والمظلومين . هل سيأتي عيسى ابن مريم ليكون نصير اسرائيل الغاصبة المعتدية ؟ ام سيأتي عيسى ابن مريم وكما كان يوصي ليبيع عصاه ويشتري بثمنها سيفا ليقاتل هؤلاء اليهود وليخرج لصوص الدين من الهيكل؟ “.

لطالما ربط سماحته بين الكيان والولايات المتحدة رائدة المسيحية الإنجيلية. معتبرا ان دعم هذه الأخيرة هو الذي يسمح بديمومته من كافة النواحي العسكرية و الأمنية والسياسية والدبلوماسية … بل واعتبر ان واشنطن هي التي تتحكم و تملي على تل أبيب قراراتها. اطلق هذا الرأي بعد حرب تموز 2006، التي أسقطت مشروع “الشرق الأوسط الكبير” حاسما للجدل حول السؤال: من الذي يتحكم بقرارت الآخر…

وبقي يصر عليه خلال حرب الإسناد نظرا للدعم الأمريكي المفتوح في كافة المجالات، وقد تأكد ذلك اليوم مع وقف الحرب على غزة.

كان السيد الشهيد قد تناول باكرا منذ خطاب العام 2002 في يوم القدس موضوع الصهيونية المسيحية التي “تتحكم في إدارة القرار الأمريكي” قائلا : “ان من يقرأ عقل الصهيونية المسيحية والمسيحية التلمودية الذي يتحدث عن هدم المسجد الأقصى لبناء هيكل سليمان في مكانه، يعرف أننا نقترب يوما بعد يوما من هذا الخطر”.

واذ استقبل الحزب عام 2003 نخبة من اليهود المتدينيين المعادين للصهيونية من جماعة ناطوري كارتا كما من العلمانيين منهم، فهو ميز تمام التمييز بينهم و بين اليهود الصهاينة. فالعداء للصهاينة ليس عداء لليهود او معاداة للسامية.

لطالما اعتبر السيد ان هؤلاء لن يصمدوا على هذه الأرض وان مشروعهم القومي مرتبط بالإستعمار الغربي والامبريالية الأميركية على وجه الخصوص و انهم قاعدة امامية لها في الشرق الأوسط… وانهم مجرد “لصوص الهيكل”.

مشروع من دون حدود: تفتيت وحروب وانقسامات

من ثوابت خطاب الشهيد الأسمى الى كل هذه الفئات، انه اعتبر ان المشروع الصهيوني لا يتوقف عند الحدود الفلسطينية. “حدود اسرائيل تقف حيث تقف الدبابة الإسرائيلية” . لطالما ذكر بهذه المقولة التي اطلقها رئيس الوزراء الإسرائيلي الأول ديفيد بن غوريون.

منذ خطاب 2002 حذر من “مشروع أمريكي صهيوني لوضع اليد على المنطقة ولإعادة رسم الخريطة السياسية للمنطقة”. وظل يحذر. وحذر من اكاذيب الادارة الأميركية ، وظل يحذر.

لطالما دعا الحكام العرب الى الاقتراب من شعوبهم و عدم الارتماء في أحضان الإدارة الأمريكية… وظل يدعوهم.

و كم حذر من مشاريع تفتيت الأمة: “إنّ الإدارة الأمريكية والحكومة الصهيونية ومن معهما من المستكبرين في العالم سيعملون في هذه المرحلة على تفتيت ما تبقى من قوة في الأمة، لذلك سوف نشهد المزيد من إثارة الأحقاد والضغائن في أمة العرب والمسلمين على أساس إثارة الحساسيات القومية”.

كما حذر من لغة العودة الى “حرب صليبية لتحريض المسيحيين على المسلمين وتحريض المسلمين على المسيحيين” و توقع ما اعتبره “الأخطر وهو اللعب على الخلافات المذهبية بين طوائف المسلمين أنفسهم وخصوصا بين الشيعة والسنة”.

وخلص قائلا: “تريد الإدارة الأمريكية أن ينفصل المسلمون عن المسيحيين والمسيحيون عن المسلمين، وأن ينقسم العرب على غيرهم وغير العرب على العرب وأن ينقسم الشيعة على السنة والسنة على الشيعة، وأن ينقسم كل بلد على البلد الآخر، وأن ينقسم شعب كل بلد على بعضه طائفيا ومناطقيا وحزبيا لأنّه في ظل هذه الانقسامات يمكن أن تتحقق أحلام أمريكا وإسرائيل.”

الحوادث التي حصلت في المنطقة خلال السنوات التي تلت هذا الخطاب أثبتت توقعاته حول تهديد المشروع الصهيوني لكل المنطقة وأبعد.

واذ أكد سيد المقاومة الأسمى على أهمية المقاومة كخيار اول للتحرير بسبب عدم جدوى القرارات الدولية التي ظلت لعقود خلت حبرا على ورق، الا انه عاد ودعا في خطابات لاحقة الى العمل على خطّي العمل المقاوم والعمل السياسي من باب الضغط من اجل التحرير.

علما ان تنصل ما يسمى المجتمع الدولي من تطبيق القرارات الدولية يؤكد شرعية المقاومة بوجه رافضي هذا الخيار في لبنان كما في فلسطين.

بالنسبة اليه، المقاومة وحدها هي القادرة على التحرير وعلى ضمان تنفيذ هذه القرارات، وموضحاً دائماً و دوماً أنها في لبنان كما في فلسطين هي حالة “دفاعية غير معتدية” رداً على “مظلومية لبنان وفلسطين والعرب والمسلمين”.

واذ طاله من هؤلاء كلهم، كما طال المجاهدين ومجتمع المقاومة، كل حملات التشهير والكذب والتشكيك بالنوايا فضلا عن محاولة الإلغاء، بقي مصرا ان القدس في عقله كما في قلبه كما في عقل وقلب شيعته.

“قولوا عنا رافضة، قولوا إرهابيين، قولوا مجرمين، قولوا ما شئتم واقتلونا تحت كل حجر ومدر، اقتلونا تحت كل حجر ومدر، … وفي كل جبهة وعلى باب كل حسينية ومسجد… نحن شيعة علي بن أبي طالب لن نترك فلسطين» . هذه الكلمات هي تتمة شعاره الذي أطلقه في احتفال يوم القدس العالمي في آب 2013 (الوارد في بداية المقالة). حينها، كانت مناطق بيئة المقاومة تتعرض لعمليات ارهابية من جهات مجتمعة في سوريا. و كانت بيئتها تتعرض لحملات كراهية في الإعلام او على مواقع التواصل الاجتماعي، على خلفية مشاركة المقاومة في مواجهة المجموعات التكفيرية المجتمعة في سوريا والعراق.

قبلها بعدة أشهر، في عيد التحرير في ايار 2013 ، كان يوضح : “اذا سقطت سوريا ستحاصر المقاومة… اذا سقطت سوريا ضاعت فلسطين”. كان يعي جيداً قبل غيره ابعاد الحرب على سوريا . وقد صدّقت الاحداث الحالية توقعاته هذه.

من تحت الأمطار… على الطريق … زحفاً نحو القدس…

ربما كان الخطاب الذي القاه سماحة السيد حسن نصر الله خلال عام 2002 ، تحت الأمطار المنهمرة والرعود المدوية على مدينة النبطية ، “حيث انطلقت المقاومة في عاشوراء 1983” ، على مرأى المجاهدين الذي وقفوا في مقابل منصته كبنيان مرصوص يتلقون دون حراك الغيث عليهم… وبحضور جمهورها، ربما كان من أكثر خطبه التي تنبأت بما هو آت، من تحديات ومخاطر من جهة، و من استعداد للمواجهة من جهة أخرى.

وقد قال فيه أيضا : “هذا الطقس الصعب رسالة واضحة تعبر عن إرادة وعزم وتصميم وأننا قوم لا نهرب لا من برد الشتاء ولا من حر الصيف ولا من حر السيوف ولا من هول المعارك. وإنّنا إن شاء الله، أمّة المقاومة وأمة التحدي وسنبقى أمة المقاومة والتحدي… نحن الذين قدمنا خيرة قادتنا شهداء على طريق القدس”.

كان أمة في رجل كما كانت بيئته كل الأمة.

وشاءت الأقدار ان يطلق على معركة الاسناد لدعم غزة وفلسطين تسمية “على طريق القدس” وان يربط الشهداء بها… و ان يكون هو من بينهم، ملتحقا بالقادة كما بالمجاهدين الذين سبقوه… و قد كان يمني نفسه بالصلاة فيها، عاصمة الأرض والسماء.

في خطابه الأخير الذي تحدث فيه عن القدس في يوم القدس، في السادس من نيسان 2024، ذكر بموقف الامام الخميني الراحل الذي أعلن آخر يوم جمعة من شهر رمضان يوما للقدس العالمي، الأمر الذي يشير الى أهمية ذلك بالنسبة اليه، بل واعتبره “تعبيراً متقدماً عن موقف تاريخي قديم لجميع مراجعنا الدينية … من قبل 1948… في النجف الأشرف في العراق في قم في مشهد في ايران في لبنان في كل الأماكن، علماؤنا واسماؤهم معروفة وكبيرة، كلهم اجمعوا وما زالوا وهذا هو المهم أيضا وما زالوا حتى اليوم على هذا الإجماع على رفض هذا الكيان، عدم شرعية هذا الكيان على اعتبار إسرائيل دولة غاصبة ومحتلة لكل فلسطين من البحر الى النهر، على حق الشعب الفلسطيني في استعادة أرضه ومقدساته وإقامة دولته من البحر الى النهر، على وجوب رفض هذا الكيان ومقاومة هذا الكيان وتحرير هذه الأرض والمقدسات”.

واذا كرس فيه شعاره “نحن شيعة علي بن ابي طالب في لبنان والعالم لن نتخلى عن فلسطين” الذي كان أطلقه قبل 11 سنة من استشهاده، فهذا الشعار، قد يكون بمثابة وصيته السياسية لكل البيئات في كافة انحاء العالم التي تدافع اليوم عن فلسطين… ولبيئته اللبنانية على وجه الخصوص والذي كان يجمعه بها حب فريد من نوعه.

واذ تكاد لا تخلو كل عائلة من هذه الأخيرة من شهيد واحد على الأقل، ارتقوا خلال الاربعين عاما، فهي تخط اليوم في تأبين شهدائها الذين لا يزالوا يرتقون في لبنان، كل يوم، في مواجهة الكيان لا زالت تخط كلمات: “على طريق القدس”… وقد التحق بهم شهداء من ايران و العراق و اليمن، من المجاهدين كما من المدنيين من بيئاتهم، وهي الدول الثلاث التي لطالما خصّها السيد بالثناء في خطبه، خاصة الأخيرة منها… وايمانه دوما ان دماء الشهداء هي التي تعبد الطريق… وانها مصداق “زحفاً زحفاً نحو القدس”، شعار المقاومة الإسلامية الأول…

وكان رهان الشهيد الأسمى مرارا وتكرارا ان هذا الكيان سوف يسقط بالنقاط ! وليس بالضرورة بالضربة القاضية.

المصدر: موقع المنار