الخميس   
   06 11 2025   
   15 جمادى الأولى 1447   
   بيروت 14:34

زهران ممداني عمدةً لمدينة نيويورك … قراءةٌ في الدلالات والأبعاد

يأتي فوز زهران ممداني بمنصب عمدة مدينة نيويورك كحدثٍ سياسي يتجاوز حدود المدينة الأميركية الأشهر ليغدو علامة فارقة في تحولات الوعي السياسي العالمي. فليس سهلاً على مدينةٍ تمثل القلب الاقتصادي للإمبراطورية الأميركية، ومختبر السياسات النيوليبرالية، وحاضنة النخب المالية البيضاء لعقود، أن تنتخب عمدة من خلفية مهاجرة شرقية-إفريقية، ومسلمة، وببرنامج اجتماعي جذري التوجه. هذا الفوز ليس مجرد تغيير إداري في بلدية، بل هو تحوّل فكري واجتماعي عميق، وانتصار لرؤى سياسية طالما وُصمت بالتطرف حين ترفع شعارات العدالة الاجتماعية وتحرير الإنسان وتوزيع الثروة وإنصاف الهويات المهمشة.

نهاية وهم “المسيحية البيضاء الغربية” كمرجعية سياسية على العالم، حان وقت المشرقيّة

لطالما مثّلت “المسيحية البيضاء” في الوعي السياسي الأميركي ركيزة ثقافية وسوسيولوجية تشرعن للهيمنة وتمنح أصحابها امتيازاً غير معلن في إدارة الشأن العام. ومع أن الولايات المتحدة دولة علمانية رسمياً، فإن البنية العميقة للمؤسسات توسّلت هذه الهوية في بناء سرديات السلطة، وتبرير الامتيازات، وخلق صورة “الأصيل” مقابل “الدخيل”.

فوز ممداني يُسقط هذا الاحتكار الرمزي ويفتح الباب لتحوّل جذري: لم يعد منصب من هذا النوع حكراً على خلفية دينية واحدة أو لون واحد أو سردية واحدة. بهذا المعنى، خسر التطرف الذي يتشبث بهوية أحادية فرصة جديدة لفرض حقيقته، وظهر أن الرهان على الفوقية الثقافية لم يعد صالحاً في مجتمع تتغير تركيبته الديموغرافية بسرعة وتتنوع هوياته وتتشابك سردياته.

من هنا تكمن أهميّة المسيحية المشرقية كنموذج للتعايش والتشارك مع احترام متبادل للقيم والهوية والدور على أساس الهوية والإنفتاح لا القمع والتجاهل.

القضايا العادلة تنتصر ولو بعد حين

إن انتصار ممداني يعيد الاعتبار لثنائية طالما شكلت جوهر الحراك الشعبي العالمي: الحرمان مقابل العدالة، والمظلومية مقابل الاعتراف. فالبرنامج الذي حمله لم يكن ترفاً فكرياً ولا شعاراً دعائياً، بل تعبيراً عن وجع طبقات مسحوقة بفعل الرأسمالية المتوحشة وارتفاع كلفة الحياة وغياب المساكن الميسّرة وتهميش المهاجرين.

لقد عاد صوت “الناس العاديين” ليتصدر المشهد، مؤكداً أن النظام العالمي الذي تجاهل مطالب الفقراء لعقود يجد نفسه اليوم يواجه موجة تصويت عقابية تنطلق من الأحياء الشعبية وصولاً إلى المؤسسات. وأنّ الحركات التي تنحاز للمحرومين — سواء في أميركا اللاتينية أو أوروبا الجنوبية أو الشرق الأوسط — ليست استثناءً، بل جزءاً من مسار تاريخي يُعيد تعريف من يستحق السلطة وكيف تُبنى.

الديموغرافيا لا تُهزم بالقمع ولا بالتجاهل

لم يكن التغير الديموغرافي في الولايات المتحدة سراً. فهو واقع تزداد حدّته سنوياً، ومعه تتراجع قدرة الخطاب العنصري على ضبط الإيقاع السياسي. فالأقليات، والأعراق المتنوعة، والهويات الدينية المتعددة، لم تعد هامشاً بل صارت رقماً حاسماً في المعادلة الانتخابية.

هذا الفوز يقدّم درساً واضحاً: حين تتغيّر بنية المجتمع لا تعود السياسات القديمة — القائمة على الإقصاء والخوف — مجدية. فمحاولة تخويف الناخبين من “الآخر” لم تعد تؤدي إلا إلى تراكم أصوات لصالحه. المرحلة المقبلة في أميركا، كما في أوروبا، ستكون مرحلة صراع بين من يريد التكيّف مع الواقع الجديد ومن يسعى إلى مقاومته بلا جدوى.

نموذج المشاركة بدل الإقصاء… بين موسكو ونيويورك

من اللافت أن هذا التحول في نيويورك يذكّر بنماذج أخرى، أبرزها النموذج الروسي الذي استوعب تاريخياً تعددية دينية وإثنية هائلة ضمن دولة واحدة، محتضناً الأرثوذكس والمسلمين والبوذيين واليهود وغيرهم. هناك إدراك روسي عميق أن التنوع قوة إذا أدير بالشراكة والتكامل لا بالقمع والتذويب.

فوز ممداني يبعث برسالة مشابهة على مستوى محلي-عالمي: أن الانفتاح على المكونات المختلفة والاستفادة من طاقاتها ودمجها في مراكز صنع القرار، هو مسار الاستقرار والفعالية، لا التخويف والإقصاء. فالعصر الذي كانت فيه “القيادة هي من يشبه الأكثرية المتخيّلة” قد انتهى، وحل محله عهد قيادة تتشكل من مجموع تنوعاتها لا من عنصرية هويتها.

من سياسة التخويف إلى سياسة التعاون

رغم الحملات التي حاولت ربط ممداني بالتطرف أو التشكيك في ولائه، فإن الناخبين اختاروا التعاون على حساب الخوف، والأمل على حساب التحريض، والانفتاح على حساب الرهاب. هذا التحول يعكس نضجاً سياسياً ويؤكد أن الميديا العدائية والشعارات القومية المتشددة لم تعد قادرة على تشكيل وعي الناخب كما كانت تفعل قبل عقدين.

لقد أثبتت الحملة أن بناء تحالف اجتماعي عابر للأديان والأعراق والطبقات ممكن وأن الثقة تُصنع عبر النزول إلى الشارع، وليس عبر الأبراج السياسية العالية.

انهيار السياسة الغربية الفوقية

أخطر ما يحمله فوز ممداني هو رمزيته العالمية: سقوط النموذج الغربي الذي تعامل لعقود مع شعوب العالم بنظرة فوقية، واضعاً نفسه معياراً للحضارة، ومحمّلاً الآخرين واجب التكيف لا المشاركة. اليوم، في قلب نيويورك، يتفكك هذا الخطاب. فالعالم لم يعد يقبل التراتبية الأخلاقية الغربية، ولا فكرة “الهوية العليا” التي تملك الحق في إدارة العالم والهيمنة على قراراته.

هذا الفوز يقول بوضوح: الديمقراطية الحقيقية لا تُدار من نخبة، ولا تُرتهن لهوية واحدة، بل تُبنى على تمثيلٍ حقيقي وإرادة شعبية حرة.

فوز زهران ممداني هو أكثر من حدث سياسي؛ إنه انعكاس لتحولات حضارية. إنه إعلان عن عصر جديد قوامه العدالة الاجتماعية، واحترام التعددية، وإنصاف المظلومين، واعتراف بأن العالم لم يعد ملكاً للنخب البيضاء ولا لإملاءات المركز الغربي.

إنها لحظة تقول إن الحرمان يولّد قوة، وإن الهويات المتنوعة قادرة على بناء مشروع موحّد، وإن المستقبل — مهما حاول البعض مقاومته — يتجه نحو عالم متعدد، تشاركي، لا مكان فيه لهيمنة لون أو دين أو طبقة واحدة.

وهكذا، فإن نيويورك، التي طالما صُنّفت بوابة الإمبراطورية، تُصبح اليوم بوابة عالم جديد، يولد من رحم التعددية والمقاومة الهادئة والمثابرة المدنية، ويكتب فصلًا جديدًا في تاريخ الإنسانية نحو نظام عالمي أكثر عدالة وكرامة وتوازنًا.


إلياس المر

باحث في العلاقات الدولية

المصدر: بريد الموقع