الجمعة   
   07 11 2025   
   16 جمادى الأولى 1447   
   بيروت 16:53

هل يشكّل فوز ممداني انعكاساً لتحولات عميقة في البنية السياسية الأميركية؟

“بدءاً من نيويورك، هل يتحقّق سيناريو الكابوس الإسرائيلي بالفعل؟”، هكذا عنونت صحيفة “معاريف” الاسرائيلية تغطيتها الإعلامية للانتخابات في مدينة نيويورك الأميركية. مضمون هذا السؤال عكس الكثير عن خلفيات ونتائج فوز شخص كزهران ممداني بمنصب عمدة المدينة التي تضمّ أكبر تجمُّع يهودي خارج كيان العدو، المدينة التي تُعدّ كذلك مركز المال والإعلام والثقافة في الولايات المتحدة الأميركية.

وإلى جانب هذه الأصداء السلبية التي أثارها إعلام العدو تجاه فوز ممداني، أتى الموقف الذي أطلقه الرئيس الأميركي دونالد ترامب تعليقاً على خسارة الجمهوريين، إذ قال خلال مؤتمر اقتصادي في ميامي بولاية فلوريدا “فقدنا شيئاً من السيادة الليلة الماضية في نيويورك، لكننا سنعالج الأمر”، ليعلن لاحقاً في مقابلة مع قناة “فوكس نيوز” إنه “على ممداني أن يسعى إلى إقامة علاقة جديدة مع واشنطن”، مطالباً اياه “بإبداء اللطف بدلاً من تبني خطاب غاضب تجاهه”، وذلك بعد أن هدده قبل نشر النتائج بأنه في حال فوزه “لن أُحوّل على الأرجح أموالاً فدرالية إلى مدينتي الحبيبة، موطني الأول، إلا الحد الأدنى الضروري”، واصفاً أي يهودي يقوم بانتخابه بـ “الغبي”.

 فمن هو عمدة نيويورك الجديد؟ وما هي أهم الأسباب التي أدّت إلى فوزه في السباق الانتخابي؟

عندما قرر ممداني دخول السباق نحو رئاسة بلدية نيويورك  في أكتوبر/تشرين الأول 2024، شكّل ذلك مفاجأة بالنسبة لنخبة الحزب الديمقراطي التي تعاقب عدد من وجوهها التقليديين على إدارة المدينة منهم بيل دي بلازيو (2014-2021) ومايكل بلومبيرغ  (2002-2013).

وجاء ترشيح ممداني تتويجاً لعدة سنوات من تمثيل الأخير منطقة كوينز في المجلس التشريعي لنيويورك، حيث لم يتردد السياسي المولود في أوغندا لعائلة مثقفة من أصل هندي، “صهر الشام” كما قال في احدى فيديوهاته على مواقع التواصل الاجتماعي في إشارة إلى زوجته ذات الأصول السورية، والحائز على شهادة في السياسة العامة من جامعة كولومبيا، لم يتردد في تحدي أسماء تقليدية في الحزب الديمقراطي، كما استطاع تدريجياً أن يحول حملته الانتخابية إلى استنفار لقواعد واسعة من الناخبين الذين بدؤوا يضيقون ذرعاً بالنخبة المهيمنة في الحزب بسبب تورطها في قضايا فساد كثيرة.

وفي هذا الإطار تأتي أحد عباراته الشهيرة “لطالما آمنت بأن السياسة الحقيقية لا تُصنع في القاعات المغلقة، بل في الشوارع، بين الناس الذين نخدمهم”. هذه الفلسفة، رأى خبراء، أنها بنت علاقة ثقة بينه وبين قاعدة شعبية واسعة، رأت فيه ممثلاً حقيقياً لطموحاتها وآلامها.

وفي هذا السياق، رأى الخبير في الشأن الأميركي الدكتور زياد حافظ أن العمدة الجديد “يمثّل نقيض ما يمثله ترامب على الصعيد السياسي، والصعيد الطبقي، وصعيد التوجّهات، وأيضاً على صعيد الجيل، فممداني شاب في الخامسة والثلاثين من العمر، في حين يبلغ ترامب التاسعة والسبعين”، مضيفاً في حديث لموقع المنار أنه من الجدير ذكره أيضاً أن ممداني “لا يمثل التوجّه التقليدي “للمؤسسة الديمقراطية، فمن الملاحظ أن الحزب الديمقراطي نفسه لم يعلن عن دعم رسمي له، وهو أمر مستجد على مستوى التوجهات الشعبية التي لم تتطابق مع قيادة الحزب التقليدية. إضافة إلى ذلك، فإن ممداني منحدر من أصول آسيوية مسلمة ويعلن صراحة دعمه للقضية الفلسطينية”.

وبحسب حافظ فإنه “رغم ما رُصد من إمكانيات مالية كبيرة، وتقديرات تتحدث عن دعم “أيباك” لأندرو كوامو منافس ممداني (الملياردير والحاكم السابق لمدينة نيويورك) بمبلغ يصل إلى 45 مليون دولار، لم ينجح هذا المسعى، فالجيل الشاب الديمقراطي لم يستجب للقيادة التقليدية وذهب بكثافة للتصويت، بينما الغالبية التقليدية لم تشارك بالقدر نفسه”.

وهنا نسأل لماذا خرج ممداني منتصراً في مدينة ليست مدينة صغيرة أو هامشية، بل هي المركز الأهم للرأسمال الأمريكي؟ ولماذا رأى خبراء، أن ذلك يمثل تغييراً استراتيجياً في المشهد السياسي الأمريكي؟

للإجابة على هذا السؤال يحضر عامل مهم وهو البرنامج الانتخابي لممداني والذي حمل عناوين أساسية: “محاربة الفساد، وتوفير سكن ميسور التكلفة، إصلاح جهاز الشرطة، جعل نيويورك مدينة يمكن تحمّل تكاليفها، حافلات سريعة ومجانية، رعاية مجانية للأطفال، الضرائب على الشركات الكبرى وأغنى سكان نيويورك”.

انطلاقاً من ذلك يلفت خبراء إلى أن ما حدث أثار خشية المنظومة التقليدية من امتداد هذه الظاهرة إلى مدن أميركية كبرى أخرى تسيطر عليها عادةً القيادة الديمقراطية، وظهور شخصيات مشابهة لممداني في الانتخابات النصفية المقبلة.

وهنا أوضح حافظ لموقع المنار أن “هذا يعني أن الحزب الديمقراطي سيواجه خصمين: المنافس الجمهوري، وأيضاً مرشحين لا ينتمون للبيت السياسي التقليدي ولا يعبّرون ولاءهم للقيادات التقليدية، والأهم من ذلك أنهم متحررون من نفوذ المال الصهيوني. وهذا قد يغيّر فعلاً خارطة السياسة الأمريكية، وهو سيناريو لم يكن أحد يتوقعه بهذا الوضوح والصِدمة التي ظهرت بها في نيويورك، رغم توقع البعض أن تكون المسألة ظرفية أو خاصة بتغيرات مدينة واحدة. لكنني أعتقد أن هذه الظاهرة ستمتد”.

كما شرح حافظ المقصود من قول ترامب عندما تحدّث عن “فقدان السيادة في نيويورك”، قائلاً إن “المدينة تضم تنوّعاً عرقياً ودينياً كبيراً، فيها أعراق متعددة وأديان متنوعة بين المسيحية والإسلام والبوذية والهندوسية”، مشيراً إلى أن “ترامب يرى أن الهيمنة يجب أن تكون للعرق الأبيض والمسيحي، لكن هذه القاعدة باتت غير قائمة بفعل هذا التنوع الجديد، حيث دخل اللاتينيون والآسيويون والعرب وغيرهم بقوة”.

إذن فإن القيادات التقليدية عاجزة عن التعامل مع هذا التنوع، بينما جاء ممداني بخطاب يستهدف الجميع ويدعو للاندماج، في حين يرى ترامب أن المهاجرين يمثلون تهديداً لمدينة نيويورك، ولا يخفي نزعته العنصرية في ذلك، حتى أنه اعتبر نيويورك “محتلة من قبل الآخرين”.

وهنا لا بد من الإشارة إلى أن خسارة حزب ترامب في “التفاحة الكبير” (لقب يطلق على مدينة نيويورك)، إضافة إلى انتخابات حكّام ولايتي فيرجينيا ونيوجيرسي، يتزامن مع دخول الإغلاق الحكومي الأميركي أسبوعه السادس، والذي بدأت تداعياته تتجاوز حدود الشلل الإداري لتتحول إلى أزمة اقتصادية وسياسية غير مسبوقة في تاريخ الولايات المتحدة.

وبينما تتفاقم الخسائر اليومية وتتعطل برامج الدعم الاجتماعي الحيوية، وجّه الرئيس دونالد ترامب انتقادات حادة لحزبه في وقت حذّرت فيه “بلومبيرغ” من آثار مالية عميقة قد تُضعف النمو وتترك “ندوباً دائمة” في الاقتصاد الأميركي.

جرس إنذار

“بصفتي عائلة يهودية، أجد موقف كومو (المرشح المنافس لممداني) مسيئاً ومتعالياً. انتقاد “إسرائيل” ليس معاداة للسامية”.

زاك كادي (يهودي) في تصريح لصحيفة “نيويورك تايمز” عقب انتخابه ممداني (أول مسلم وأصغر عمدة في تاريخ هذه المدينة المركزية)

فسّر الخبير في الشأن الأميركي الدكتور زياد حافظ انتخاب ثلث الجالية اليهودية في المدينة لممداني، بأن “الجالية نفسها منقسمة منذ سنوات، فشباب اليهود دون سن الخامسة والأربعين لهم توجهات مختلفة عن آبائهم، خاصةً فيما يتعلق بالقضايا الفلسطينية. ولا يخفى أن العديد من القيادات الطلابية التي حركت التظاهرات في جامعة كولومبيا، كانوا من الشباب اليهود، على خلاف آبائهم الذين ينتمون للنخب التقليدية الحاكمة في المدينة وخارجها. هذا يؤشر إلى أن الجيل الجديد لم يعد يلتزم نفس القيم ولا التوجهات القديمة”.

وتابع حافظ قائلاً بأن “هذا كلّه ينبئ بأن المشهد السياسي القادم في أمريكا سيكون مبنياً على اعتبارات جديدة مختلفة عن الماضي. جيل الشباب الرافض لا يتماهى مع قادة الحزبين التقليديين، لا ديمقراطيين ولا جمهوريين، ولا يستطيع أحد أن يقرأ ما في مزاجهم السياسي أو يقودهم. هذا الجيل يرفض بالكامل التوجهات والسياسات التقليدية داخلياً وخارجياً، لذلك يجب أن نتابع هذه الظاهرة عن كثب، فقد تكون بداية “ثورة سلمية” غير تقليدية”.

وهنا لا بد من الإشارة إلى الأصوات الغاضبة والقلقة التي برزت في إعلام العدو تعليقاً على الحدث، خصوصاً مع الحديث في أوساط عدة عن تغير ملحوظ في نظرة الغرب تجاه الكيان تحديداً في أوساط الشباب عقب الإبادة في غزة.

وفي هذا الإطار، كتب الصحافي الصهيوني عوفر حداد في موقع “القناة 12” الاسرائيلية أنه “بعد 24 عاماً من تعرضها لأسوأ هجوم إرهابي في تاريخ الولايات المتحدة والعالم، (هجمات 11 أيلول/سبتمبر) رفعت مدينة نيويورك إلى مستوى العظمة رجلاً، فاشل”، معتبراً أن انتخاب ممداني “بمثابة جرس إنذار لـ”إسرائيل””.

من جهته، طالب يائير بالاخوفسكي أيضا في موقع “القناة 12” كيان الاحتلال “بالاستيقاظ لأن انتخاب ممداني ليس مجرد انتصار سياسي محلي، بل هو رمز لاضطراب ثقافي عميق يهدد الهوية اليهودية والصهيونية”.

ووفق “نيويورك تايمز”، فإن القلق الاسرائيلي “يعود جزئياً إلى احتمال استخدام ممداني صلاحياته كعمدة للترويج لسياسة فكّ الارتباط التدريجي بالاستثمارات الإسرائيلية. ومعروف عنه دعمه سابقاً لحركة المقاطعة علناً، وقيادته مبادرات ضد المنظمات الاستيطانية في الضفة الغربية”، حسب الصحيفة.

هذا القلق أعرب عنه السفير الإسرائيلي السابق في واشنطن، زلمان شوفال، محذّراً، في مقالة رأي في صحيفة “معاريف” الاسرائيلية من أن الانتخابات المحلية في أميركا، وخاصة في نيويورك، ما هي إلّا “انعكاس لتحوّلات عميقة في البنية السياسية الأميركية”، ذلك أن المكانة الخاصة لـ “إسرائيل” في الولايات المتحدة “لم تَعُد مضمونة، خصوصاً مع بروز جيل جديد يَنظر إلى القضيّة الفلسطينية بشكل مختلف”.

المصدر: موقع المنار