يُطلّ علينا بين حينٍ وآخر مشهد لبنانيّ طريف لو كان موجعًا: وزراء يتسابقون على طاولة مجلس الوزراء، يسابقون المسيرات، يتبارزون بالخطابات والعبارات الجوفاء، الذي لا تسمع من صوت الطائرات الحربية منها والتجسسيّة، وكلٌّ منهم يضع يده على صدره وكأنه “صاحب القرار المصيري” في إعلان الحرب أو صنع السلام. مشهدٌ يشبه جدال عائلةٍ يشتعل بيتها قصفًا، بينما يتنازع أفرادها على من له الحق في اقتناء الأريكة المحترقة أو الستارة الممزّقة.
في كل مرة تشتعل فيها الجبهة الجنوبية، يخرج علينا أحدهم من خلف الميكروفونات معلنًا أن “قرار الحرب والسلم بيد الدولة اللبنانية وحدها”، وهكذا يجب أن يكون. جميل. لكن ليت أحدهم يُخبرنا:
هل تملك هذه الدولة قرار منع الطيران الإسرائيلي من انتهاك أجوائها يوميًا؟ هل تملك قرار الردّ على القصف المتكرّر، أم أنها تكتفي باستدعاء “المستشار القانوني” ليتأكد إن كان القصف يشكّل فعلًا عدائيًا أم “رسالة تحذيرية”؟
القرار بيد من يملك القنابل لا القوانين
الحقيقة المُرّة أن قرار الحرب والسلم في المنطقة لا يُتّخذ على الطاولة اللبنانية، بل في مكاتب وزارة الدفاع الإسرائيلية، أو ربما في غرفةٍ جانبية داخل البنتاغون، أو عبر مكالمة من البيت الأبيض تُحدّد إيقاع “الهدوء” وموعد “التصعيد”.
أما نحن، فننشغل بتدوير الكراسي الخشبية حول الطاولة المستديرة، وكأن صوت القصف لا يعلو على صوت النقاش الدستوري العقيم.
يذكّرنا المشهد بما جرى عام 1967 حين فُتحت الحرب في المنطقة بقرارٍ إسرائيلي استباقي، تحت ذريعة “الدفاع الوقائي”. ويُعيدنا إلى 1982 عندما اجتاحت إسرائيل لبنان، ليس لأن أحدًا قرر الحرب من بيروت، بل لأن تل أبيب قررت “الوقت المناسب” لتدمير منظمة التحرير الفلسطينية. ثم إلى 2006، حين انفجرت الحرب لا بقرار مجلس الوزراء اللبناني، بل بإرادة إسرائيلية قدّرت أن الفرصة سانحة لإعادة رسم خريطة الردع في الشمال.
إسرائيل، على مرّ عقودها، لم تنتظر أحدًا ليستفزّها. هي تصنع الاستفزاز، تُشعل النار، ثم تبكي “الدفاع عن النفس”.
تمامًا كما فعلت في غزة مئات المرات، وكما تفعل اليوم في الجنوب اللبناني عبر استفزازاتها اليومية التي تُلبسها ثوب “الردع”، بينما هي عمليًا سياسة ابتزاز دائمة لدولةٍ عاجزة عن الردّ بنفسها.
بين الخطاب والسيادة المفقودة
أمام كل هذا، يبقى المشهد اللبناني محصورًا بين خطابين:
• خطاب يزايد على المقاومة، يتحدث عن حصرية القرار، وكأن مجرّد توقيع محضر في مجلس الوزراء قادر على إسقاط طائرةٍ معادية.
• وخطاب آخر يطلب الإلتزام الفعلي باستراتيجية الأمن الوطني.
وبينهما، تبقى الحقيقة: أن القرار الوطني الحقيقي لا يكون إلا بإجماعٍ يفرض معادلة ردع حقيقية. لكن من أين يأتي الإجماع في دولةٍ لم تستطع أن تحسم حتى من يدير ملف النفايات؟
شواهد التاريخ تفضح الوهم
التاريخ يعيد نفسه في صورٍ هزلية:
• عام 1948، قررت العصابات الصهيونية الحرب بينما العرب اجتمعوا على بيانات التأييد.
• عام 1956، شنّت إسرائيل حرب السويس بالشراكة مع بريطانيا وفرنسا، والعرب كانوا مشغولين بخلافاتهم.
• عام 1982، كان لبنان غارقًا في الحرب الأهلية، فدخلت إسرائيل بيروت “دعماً للسلام”.
• واليوم، ونحن في عام 2025، تعلن إسرائيل كل أسبوع حالة “الاستعداد القصوى” وتنفّذ اغتيالات في سوريا ولبنان، فيما يتبارى السياسيون في بيروت على من يملك “التوقيع الشرعي” لقرار لم يعد أحد ينتظر صدوره.
من يملك السماء يملك القرار
من يراقب طيران الاستطلاع الإسرائيلي يوميًا فوق بيروت والبقاع والجنوب، يعلم أن الحديث عن “حصرية قرار الحرب والسلم” هو نكتة سيادية.
فمن لا يملك السيطرة على سمائه لا يملك أن يقرّر متى تبدأ الحرب ولا متى تنتهي. بل يصبح القرار، عمليًا، في يد من يمتلك التفوق الجوي والغطاء الدولي والجرأة على خرق القوانين.
السخرية الإسرائيلية المرة: سلام بلا قرار، وحرب بلا إذن.
هكذا، يعيش لبنان بين “سلامٍ بلا قرار” و”حربٍ بلا إذن”. السلام تُقرّره إسرائيل عندما تهدأ شهيتها، والحرب تُعلنها عندما تجد في الدماء العربية فرصة انتخابية أو رافعة سياسية.
أما اللبنانيون، فيتنازعون على التصريحات، كمن يتنافس على الأثاث في بيتٍ يُقصف، بدل أن يُفكروا في بناء جدارٍ يحمي السقف من السقوط.
قرار السلم والحرب، يا سادة، لا يُصاغ في البيانات الوزارية ولا في خطابات المزايدة. القرار الحقيقي يُصاغ في الميدان، حيث من يملك القدرة على الردع هو من يملك حق القرار.
أما من يجتمع ليناقش “من يوقّع أولًا”، فيما الطائرات تملأ السماء، فهو مثل من يجادل في توزيع الميراث قبل دفن الميت.
ولذلك، سيبقى المشهد مضحكًا – مبكيًا: إسرائيل تقصف، والوزراء يتناقشون، والشعب يتابع النشرة المسائية ليعرف من “ربح الجولة” في طاولة السجال… لا في جبهة الدفاع عن الوطن، مناشداً العلي لا حول له ولا قوة … “أرجوكم أمسكوا بقرار السلم والحرب”.
إلياس المر / باحث في العلاقات الدولية
المصدر: بريد الموقع
