الأربعاء   
   25 06 2025   
   29 ذو الحجة 1446   
   بيروت 15:49

رسالة “قاعدة العديد”.. طهران تكسر العصا

إسراء الفاس

“أيّ ردّ من إيران، ولو كان محدوداً، سيقابَل بردٍّ ساحق ومدمّر. نحن نراقب كل تحرك، وإذا ظنّت إيران أنّها سترد وتنجو، فهي ترتكب خطأً فادحاً.”

يومٌ واحد كان فاصلاً بين التهديد الذي وجّهه الرئيس الأميركي دونالد ترامب، والردّ الإيراني باستهداف قاعدة العديد. في ٢٢ حزيران/يونيو، وبعد الضربات الأميركية التي استهدفت المنشآت النووية الإيرانية في فوردو، نطنز، وأصفهان، أتت تصريحات ترامب… فأتى الردّ الإيراني مباشرةً في اليوم التالي، بصواريخ استهدفت قاعدة العديد الجوية في قطر.

وعلى عكس التهديدات، شكر ترامب إيران على إخطارها المسبق عن الضربة، محاولاً تسخيف الردّ، داعياً إلى وقف الحرب. ومن دون الوقوف مطولاً عند كلام ترامب هذا، سيتوجب على الإيرانيين بالمقابل توجيه شكر له، لكونه – وعلى زعمه – رغم علمه المسبق بالضربة، سمح لطهران بضربة تمنحها “رد اعتبار”.

ضربة رمزية
إلى جانب تصريحات ترامب، اصطف الإعلام الرسمي العربي محاولاً تسطيح الحدث وإفراغه من مضمونه ، بتكرار عبارة: “ضربة رمزية”. والضربة رمزية في الشكل نعم، تماماً كما كان العدوان الأميركي الذي طال المنشآت الإيرانية، لكن ذات مضامين سياسية خطيرة.

من ناحية الشكل، نفّذ الأميركيون ضربات على منشآت نووية كانت قد أُفرغت من المواد النووية المخصّبة، وأتى الردّ موازياً: استهدفت إيران أكبر القواعد العسكرية في المنطقة بعد أن تمّ إخلاؤها في وقت سابق. وفيما كانت الضربة الأميركية تستخدم العصا بعد أن كانت قد لوّحت بها لجرّ إيران إلى الإذعان والقبول بشروط ثلاث: التخلي الكامل عن برنامجها النووي، وقف تطوير ونشر الصواريخ الباليستية، ووقف دعم وإمداد حلفائها من قوى وفصائل المقاومة في المنطقة. أتى الردّ الإيراني ليكسر العصا، بمثابة رسالة سياسية، بأنّ الاستسلام غير وارد، وأنّ طهران جاهزة للذهاب إلى النهاية فيما لو توسعت دائرة المواجهة.

ولعل أكثر ما يثير السخرية في التعاطي الإعلامي مع الحدث، اصطفاف الإعلام العربي – الذي فُعِّلت في مدنه صفّارات الإنذار لأول مرة منذ سنوات أو عقود – في صفّ المُسخفين من حجم الحدث. مع أنّ المسألة تكمن في جوهرها بأنّ الردّ خرج من طهران، رغم تهديدات ترامب بالردّ المضاعف. لكن السؤال الحقيقي الذي يستحق أن يتوقّف عنده هؤلاء: من يجرؤ في هذه المنطقة على إرسال رسالة بهذا الشكل الصريح والمباشر إلى الأميركيين؟
‏وهي أميركا دونالد ترامب، “الإله” كما يُهيَّأ له، وكما يتعاطى مع ملوك وأمراء المنطقة… فيغدقون عليه العطايا والتريليونات سمعاً وطاعة. ورسالة إيران لم تكن عبر الموفدين الدبلوماسيين، بل بالصواريخ مباشرةً تتلقّاها أكبر القواعد الأميركية في المنطقة.. في قلب الخليج. وهذه ليست مجرّد رمزية، بل تحطيم لمنطق “الهيبة الممنوعة”.

الرهانات الخاسرة
كان الرهان الطرف المبادر بالعدوان أن إيران ضعُفت، وأنها لا تمتلك القدرة على الدخول في مواجهة مع واشنطن وتل أبيب معاً، وبالتالي فإن اخضاعها قابل للتحقق مقابل أن تحافظ على وجودها داخل حدودها الجغرافية. وقد كان واضحاً منذ إطلاق العدوان الإسرائيلي وتبنّيه أميركياً، أن الرئيس الأميركي انساق إلى منطق بنيامين نتنياهو، متوهّماً بأنّ اللحظة مثالية لضرب إيران وإجبارها على الاستسلام، وأنّهم أمام فرصة تاريخية قد لا تتكرر: الواقع الإقليمي المستجد؛ بسوريا جديدة معادية لإيران، ومع لبنان الذي يخرج منهكاً من حرب مدمّرة، والعراق القلق، وغزة المدفونة تحت أنقاض حرب الإبادة والتجويع، واليمن الذي يُضرَب ويتلقّى الضربات… وبالمنطق الإسرائيلي وقياساً على واقع المنطقة، تبدو إيران: أضعف، أكثر حساباً، أقل اندفاعاً. ورهان الإسرائيليين كما الأميركيين كان واضحاً بأنّ إيران لن تواجه الأميركيين بشكل مباشر، لأنّ تكلفة هذه المواجهة باهظة، بل هي انتحار. وهذا ما ذهبت إليه جلّ القراءات السياسية للعدوان.

ما حدث جاء معاكساً تماماً لكل القراءات والرهانات.
لم تبتلع إيران الضربة، بل خرج الردّ من أراضيها يضرب أكبر الأهداف الأميركية في منطقة الخليج وغرب آسيا عموماً، فارضة – دون استجداء من أحد – وقف العدوان، بأداء عسكري مذهل، وإدارة إعلامية ممتازة مقياسها ما أفرزته من التفاف شعبي إيراني، لشارع يصفه أعداء إيران بـ”المهزوز”، وعليه أتى تعويلهم عليه مخيباً للآمال. استطاع الإيرانيون تثبيت سرديّتهم داخلياً: الاستسلام غير وارد، وأي تنازل قد تبديه الجمهورية الإسلامية لم يكن ليُرضي الأميركيين أو الإسرائيليين الذين سيذهبون لطلب المزيد. وأكثر من يدرك ذلك الإيرانيون، بشقّيهم: الرافض للتفاوض مع “الشيطان”، والمطالب بأنّ تُمنح الدبلوماسية فرصة. وقد منح إيران الدبلوماسية هذه فرصاً – لا فرصة واحدة – وفي عزّ النجاح الذي راهن عليه بعض الإيرانيين، لم تُقدِم الإدارة الأميركية على منح الإيرانيين أي حق من حقوقهم المصادرة، هذا في عهد أوباما.
وتجربتهم مع إدارة ترامب تحديداً حافلة: من الانقلاب على الاتفاق النووي، إلى اغتيال الجنرال قاسم سليماني.. وصولاً لتبنّيه وانخراطه المباشر في العدوان ضد إيران.

وأخطر ما كانت تحذر منه القيادات الإيرانية، أنّ قبول إيران بوقف التصعيد وفق شروط وتوقيت “إسرائيل”، يعني القبول بمنطق جديد يحاول العدو فرضه في المنطقة: يضرب متى بريد، وأين يريد، من دون كلفة أو ردّ.

على هذا الأساس كانت رسائل الإيرانيين في نوعية ضرباتهم في الداخل المحتل، واستهدافهم قاعدة العديد ضرورية، لوضع حدّ للعربدة الإسرائيلية بضوء أخضر أميركي مفتوح.

تسأل الباحثة الأميركية -من أصول إيرانية – هولي داغرس:
“كيف يمكن للمرء أن ينتقل من ‘تغيير النظام’ إلى ‘الله يبارك إيران’ في غضون 24 ساعة؟”

بالنسبة لترامب، الأمر طبيعي جداً، جربه سابقاً مع اليمن. إلا أنّ الإجابة الفعلية عن تساؤل داغرس، تكمن في وجهة الصواريخ الإيرانية التي وصلت إلى قاعدة العديد، بعدما حققته داخل الكيان المحتل… إيران وحدها، دون دعم مباشر من حلفائها في المنطقة خاضت المواجهة، بضربات موجعة لـ”إسرائيل”، أعادت الأميركيين إلى حسابات الواقع، مثبتة مرة أخرى أنّها عصية على الاستسلام.

ويبقى السؤال المطروح: هل انتهت الحرب فعلياً؟ وأي ملامح سترسمها الأيام المقبلة؟

والجواب: قطعاً لا. ما حدث ليس نهاية للحرب، بل خاتمة جولة أثبتت فيها إيران أنها خرجت منها أقوى داخلياً وإقليمياً مما كانت عليه قبل 13 حزيران/يونيو.

لقد انتهت جولة من حرب مفتوحة لا تنتهي إلا بكسر أحد المشروعين: المشروع الأميركي – الإسرائيلي الذي لا يرى في إيران إلا هدفاً يجب احتواؤه و إسقاطه على قاعدة: الضغط المتواصل ثم الذبح المؤجّل، والمشروع الإيراني الذي يرفض الانكفاء ويرى نفسه في موقع الدفاع عن الوجود والسيادة والهوية.

وإذا كانت الجولة الأخيرة قد حُسمت عسكرياً عبر ربط نزاع عسكري مباشر، فإن الجولة التالية ستتخذ أشكال ضغوط واستنزاف تُجيد طهران إدارتها منذ الأيام الأولى لانتصار الثورة؛ والهدف: الجمهورية الإسلامية بصفتها النظام السياسي الحاكم، على أن تتصدر المنظومة الصاروخية والبرنامج النووي عناوين هذه المواجهة.

المصدر: موقع المنار